في عالم يموج بالتحديات والضغوط النفسية المتزايدة، تتبوأ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مكانة مرموقة كمؤسسة روحية وإنسانية رائدة، تسعى جاهدة لتقديم نموذج فريد في الاهتمام بالإنسان ككل، روحًا ونفسًا وجسدًا. لم يعد دور الكنيسة مقتصرًا على تقديم الخدمات الروحية والعبادة فحسب، بل امتد ليشمل دعم الصحة النفسية، انطلاقًا من إيمانها الراسخ بأن "النفس الغالية عزيزة على الله". هذا التحول يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية الصحة النفسية كعنصر أساسي في حياة الفرد والمجتمع، ويعكس أيضًا التزام الكنيسة بتقديم الدعم اللازم لمواجهة التحديات النفسية التي تواجه الأفراد والعائلات.
تتجلى جهود الكنيسة في هذا المجال من خلال تأسيس لجان متخصصة مثل اللجنة المجمعية للصحة النفسية ومكافحة الإدمان، والتي تهدف إلى رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية، وتدريب الكهنة والخدام على مبادئ الدعم النفسي الأولي. كما تنظم اللجنة مؤتمرات دورية وورش تدريبية في مختلف الإيبارشيات، بهدف نشر المعرفة وتوفير الأدوات اللازمة للتعامل مع القضايا النفسية المختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى الكنيسة إلى تعزيز التعاون مع المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الصحة النفسية، من خلال توقيع بروتوكولات تعاون تهدف إلى تبادل الخبرات وتوحيد الجهود لتقديم أفضل الخدمات للمحتاجين. ومن أبرز هذه البروتوكولات، توقيع بروتوكول تعاون مع وزارة الشباب والرياضة، لتقديم برامج تدريبية وتوعوية مشتركة في مجالات التنمية النفسية والمهارات الحياتية، ضمن رؤية وطنية لبناء وعي شبابي متوازن ومتماسك.
تتبنى الكنيسة منهجًا علميًا في التعامل مع قضايا الصحة النفسية، من خلال الاستعانة بالمتخصصين في علم النفس والطب النفسي، وتقديم خدمات الإرشاد النفسي الفردي والجماعي بسرية تامة. كما تعمل الكنيسة على توفير الدعم المخصص للأسر التي تواجه مشكلات نفسية، من خلال تقديم جلسات مشورة زوجية، ولقاءات توعية للآباء والأمهات.
وإدراكًا منها لأهمية الوقاية من المشكلات النفسية، تولي الكنيسة اهتمامًا خاصًا بالتربية الكنسية، من خلال تضمين متخصصين في الإرشاد النفسي التربوي في فرق الخدمة في مدارس الأحد، لتقديم الدعم للخدام في التعامل مع الأطفال والمراهقين، وتقديم تدريبات عملية حول اكتشاف العلامات المبكرة للاضطرابات النفسية. ومن الأمثلة على هذه البرامج، برنامج "نفسك تهمنا" الذي تقدمه إيبارشية شبرا الخيمة، وبرنامج "نحكي ونتشافي" الذي تعقده إيبارشية المنيا.
لم تغفل الكنيسة عن قضية الإدمان، بوصفها أزمة نفسية واجتماعية، فقامت بتوفير الدعم المناسب للمتعافين من الإدمان، وتنظيم لقاءات تثقيفية عن كيفية اكتشاف علامات الإدمان في بدايتها. وفي هذا السياق، أقيمت شراكات مع مؤسسات علاجية وخبراء في الطب النفسي، لتنظيم هذه اللقاءات التثقيفية. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الكنيسة إلى توفير خدمات نفسية فردية وسرية، من خلال تخصيص أماكن داخل الكنائس الكبرى لتقديم هذه الخدمات، وتوفير خطوط دعم نفسي عبر الهاتف، يُديرها متطوعون خضعوا لتدريب متخصص. وفي القاهرة، تم إطلاق تطبيق إلكتروني يحمل اسم "نفسك غالية"، يمكن من خلاله حجز استشارات نفسية مجانية أو منخفضة التكلفة مع معالجين نفسيين من أبناء الكنيسة.
تعتبر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن الإنسان قيمة عليا، وأن الصحة النفسية ليست ترفًا، بل ضرورة. وتسعى جاهدة لكسر وصمة المرض النفسي، وتشجيع الناس على طلب المساعدة دون خجل. لم تعد المعاناة النفسية تُقابل بالتجاهل أو التفسير الخاطئ، بل أصبحت الكنيسة تتعامل معها كحاجة حقيقية، تحتاج لرعاية علمية وروحية.
ومن خلال هذه الجهود المتكاملة، تبني الكنيسة جيلًا جديدًا أكثر وعيًا، أكثر توازنًا، وأكثر قدرة على العطاء والحياة. إنها تمضي بخطى ثابتة لتكون كنيسة قريبة من الوجع، وملجأ حقيقيًا للمتعبين، ومصدر إلهام للمجتمع بأكمله.