لطالما اعتبرت "ثماني ساعات من النوم" المعيار الذهبي الذي ينصح به خبراء الصحة والطب في مختلف أنحاء العالم، لكن دراسة حديثة أجراها علماء كنديون من جامعة كولومبيا البريطانية قلبت هذه الفرضية رأسًا على عقب، بعد أن أظهرت أن مدة النوم المثالية قد لا تكون واحدة للجميع، بل تختلف باختلاف العادات والتقاليد الثقافية.

 

هل 8 ساعات من النوم هي حقًا المثالية؟ دراسة كندية تثير الجدل

 الدراسة، التي نشرت نتائجها في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences، سلطت الضوء على وجود تباينات كبيرة بين المجتمعات العالمية في ما يتعلق بأنماط النوم وتأثيراتها الصحية، مما يُعيد فتح النقاش حول مدى دقة المعايير العالمية المرتبطة بالنوم. 

 

البيانات تتحدث: 70 دولة.. ونتائج غير متوقعة

قام الفريق البحثي بتحليل بيانات نوم لأشخاص من أكثر من 70 دولة حول العالم، ووجد أن هناك اختلافًا كبيرًا في مدة النوم بين الشعوب، دون أن يرتبط ذلك بشكل مباشر بمؤشرات الأمراض المزمنة مثل أمراض القلب، السكري، أو السمنة.

 

واحدة من النتائج التي أثارت الاهتمام كانت المفارقة اليابانية فبحسب الدراسة، ينام اليابانيون في المتوسط ما بين ساعة إلى ساعة ونصف أقل من الشعوب الأخرى، إلا أن ذلك لم ينعكس سلبًا على صحتهم، بل على العكس، ما زال اليابانيون يحتلون المرتبة الأولى عالميًا في متوسط العمر المتوقع.

 

السياق الثقافي أهم من "الساعة البيولوجية"

تشير النتائج إلى أن ما يُعد نومًا كافيًا في ثقافة معينة قد لا يكون كذلك في ثقافة أخرى، حيث يلعب السياق الثقافي والاجتماعي دورًا كبيرًا في تحديد نمط النوم المثالي للفرد فعلى سبيل المثال، فإن مجتمعات تبدأ يومها باكرًا أو تعتمد على وسائل نقل طويلة قد يكون لديها أنماط نوم مختلفة، لكنها لا تؤثر بالضرورة سلبًا على صحة الأفراد إذا ما توافق ذلك مع نمط حياتهم العام.

 

ويرى الباحثون أن الراحة النفسية الناتجة عن توافق نمط النوم مع السياق الاجتماعي المحيط ربما تكون أكثر أهمية من عدد الساعات الفعلية للنوم، وهو ما يمكن أن يفسر شعور كثير من الأشخاص بصحة جيدة رغم نومهم عدد ساعات أقل من الموصى بها.

 

التشكيك في التوصيات العالمية


نتائج هذه الدراسة جاءت لتشكك في مدى جدوى التوصيات الموحدة عالميًا، التي تنصح البالغين بالنوم بين 7 و9 ساعات يوميًا ويقول العلماء الكنديون إن هذه الإرشادات تفتقر إلى المرونة اللازمة لتأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي والبيئي بين الشعوب.

 

وأوضح أحد الباحثين أن "هذه النتائج تثير تساؤلات كثيرة حول الاعتماد على معيار ثابت للنوم حول العالم، وتدعو إلى مراجعة هذه التوصيات بناءً على دراسات محلية تأخذ في الحسبان العوامل الثقافية والاجتماعية الفريدة لكل مجتمع".

 

النوم والثقافة.. علاقة معقدة


ربما يكون من السهل اعتبار النوم مسألة بيولوجية بحتة، لكن الأدلة تتزايد على أن النوم هو سلوك يتشكل أيضًا عبر العادات والتقاليد ففي بعض الثقافات، يُعد النوم لفترات قصيرة خلال الليل وتعويض ذلك بالقيلولة نهارًا نمطًا معتادًا، وفي ثقافات أخرى، ينام الناس ساعات أطول ليلًا دون قيلولة، لكن كلا النمطين قد يكون صحيًا إذا ما انسجم مع الإيقاع الحياتي للفرد.

 

وقد أشار الباحثون إلى أن الأشخاص الذين شعروا بالراحة والصحة الأفضل هم أولئك الذين كانت عادات نومهم منسجمة مع المعايير الثقافية لمجتمعاتهم، ما يعني أن محاولة فرض نمط نوم "عالمي" قد يؤدي إلى نتائج عكسية، خصوصًا إذا شعر الفرد بالضغط للتماشي مع توصيات لا تتناسب مع ظروفه الحياتية.


في ضوء هذه النتائج، يرى عدد من خبراء الصحة أنه قد حان الوقت لإعادة النظر في طريقة فهمنا للنوم السليم بدلاً من التركيز فقط على عدد الساعات، ينبغي التركيز على جودة النوم، ومدى شعور الفرد بالراحة والنشاط خلال اليوم، ومدى توافق نومه مع طبيعة حياته اليومية.

 

ولعل من أبرز الدروس التي تقدمها هذه الدراسة هو أن النوم ليس مجرد وظيفة بيولوجية تنفَّذ بشكل متماثل لدى جميع البشر، بل هو جزء من النسيج الثقافي والاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، ويتفاعل معه بطرق متعددة.

 

خلاصة: لا توجد "وصفة سحرية" واحدة للجميع

مع تطور العلم وزيادة فهمنا لأنماط الحياة البشرية، يبدو أن فكرة وجود وصفة سحرية واحدة للنوم الصحي بدأت تتلاشى. فقد بيّنت الدراسة الكندية أن الصحة الجيدة لا تعتمد فقط على الالتزام بعدد ساعات نوم معين، بل على مدى انسجام هذا النوم مع النمط الحياتي للفرد ومجتمعه.

 

وبينما لا تزال هناك حاجة إلى المزيد من الدراسات لفهم العلاقة المعقدة بين النوم والثقافة والصحة، فإن هذه النتائج تقدم دعوة مهمة لمراجعة المفاهيم السائدة، وتشجيع الأفراد على الاستماع لأجسادهم وظروفهم الخاصة، بدلًا من السعي القسري لتحقيق "المثالية" في النوم.