في مشهد سياسي لافت حمل في طياته رسائل مزدوجة، وصف الكرملين مؤخرًا موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن استبعاد أوكرانيا من حلف شمال الأطلسي (الناتو) بـ"المرضي" هذا التصريح، الذي بدا للوهلة الأولى مجرد عبارة دبلوماسية، أثار تساؤلات كبيرة حول ما إذا كانت بوادر تسوية سياسية تلوح في الأفق بعد عامين من الحرب التي أنهكت موسكو وكييف، وأرهقت الغرب سياسيًا واقتصاديًا.
تزامنًا مع موقف ترامب، خرج المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، ليؤكد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "منفتح" على إيجاد مخرج سياسي للأزمة الأوكرانية، مع التشديد على أن الحوار مع الولايات المتحدة لا يزال قائمًا في المقابل، بدا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أقل حدة في تصريحاته، ما فُسر على أنه استعداد ضمني لقبول بعض التعديلات على المواقف السابقة، خاصة بشأن عضوية الناتو.
هذه النبرة الجديدة دفعت العديد من الخبراء إلى طرح سؤال محوري: هل نحن أمام تحول جاد في الأزمة، أم مجرد جولة جديدة من "جس النبض" السياسي؟
منذ اندلاع الأزمة في فبراير 2022، كانت عضوية أوكرانيا المحتملة في الناتو خطًا أحمر بالنسبة لروسيا، التي تعتبرها تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وبحسب المحلل السياسي د سمير أيوب، فإن استبعاد هذا الخيار – ولو مؤقتًا – من جدول النقاشات، يمثل مكسبًا كبيرًا لموسكو.
وأضاف في تصريحات لموقع "إرم نيوز"، أن تخلي كييف عن فكرة الانضمام للحلف قد يعد الخطوة الأولى نحو حوار حقيقي، لكنه لا يحل الأزمة من جذورها، خاصة أن قضية القرم والمقاطعات الأربع الأخرى التي ضمتها روسيا تبقى العقدة الأكبر.
الواقع الميداني يفرض معادلة صعبة. فروسيا تسيطر فعليًا على شبه جزيرة القرم منذ عام 2014، وعلى أربع مناطق أوكرانية منذ 2022 لكن المجتمع الدولي، بما فيه حلفاء موسكو مثل الصين، لا يعترف رسميًا بهذا الضم.
يقول د. نبيل رشوان، الباحث في الشأن الروسي، إن التسوية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق ما لم تُحسم هذه المسألة الشائكة. ويضيف أن روسيا قد تقبل بتنازلات محدودة في بعض المناطق إذا حصلت على ضمانات مكتوبة بشأن السيادة على القرم وحياد أوكرانيا الاستراتيجي.
ورغم ما يبدو من تليين أمريكي في بعض الملفات، فإن الموقف الأوروبي لا يزال حجر عثرة كبير أمام أي تسوية فدول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا وبولندا، ترفض بشكل قاطع الاعتراف بأي مكاسب ميدانية روسية، وتصر على انسحاب موسكو الكامل من الأراضي الأوكرانية.
ويرى الخبراء أن هذا الرفض يقيّد أي محاولة أمريكية لتقديم حلول وسط، ويجعل من التفاهم الثلاثي (موسكو – واشنطن – كييف) غير كافي في حد ذاته، ما لم يتم استيعاب مواقف الدول الأوروبية ضمن اتفاق شامل.
في سياق الحديث عن التسويات المحتملة، برزت فكرة تحويل محطة زابوروجيا النووية إلى منطقة محايدة، تحت إشراف طرف ثالث ربما تكون واشنطن، أو جهة دولية – كحل مؤقت يفتح المجال أمام ترتيبات أكثر استدامة الفكرة تلقى اهتمامًا متزايدًا، لكنها تواجه اعتراضات أوكرانية مبدئية.
يتفق الخبراء على أن إدارة ترامب وإن كانت تميل لإظهار الندية مع موسكو لا تمانع البحث عن مخرج ينهي النزاع الذي بات يستنزف الموارد السياسية والاقتصادية والعسكرية لكن التحول في الموقف الأمريكي يبقى مرهونًا بإشارات جدية من الكرملين تؤكد استعدادًا حقيقيًا لتقديم تنازلات، ولو كانت محدودة.
ويشير أيوب إلى أن أحد مفاتيح التقدم هو التوقف الأمريكي ولو مؤقتًا عن دعم أوكرانيا عسكريًا واستخباراتيًا، خاصة في ما يتعلق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية فقط حينها، قد تضطر كييف إلى تبنّي مقاربة أكثر واقعية.
تبدو الصورة الآن ضبابية، لكن احتمالات التوصل إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد لم تعد مستبعدة. ويعتقد د. رشوان أن واشنطن تدفع في هذا الاتجاه، لفتح نافذة تفاوض تتيح تقاسم النفوذ، أو حتى ترسيم حدود سياسية جديدة بين روسيا وأوكرانيا.
لكنه يحذر في الوقت نفسه من مخاطر المراهنة على النوايا فقط، مشيرًا إلى أن موسكو تطالب بضمانات مكتوبة، لا تعهدات شفوية قد تتغير بتغير الإدارات في الغرب.