أثار مقطع فيديو قصير لطبيبة الأطفال نيكا دوفيكاس من ولاية نيوجيرسي ضجة كبيرة على منصة "تيك توك"، بعدما دعت فيه الأمهات إلى الاستجابة الفورية لبعض طلبات أطفالهن في مواقف محددة، وهو ما اعتبره البعض خروجًا عن قواعد التربية التقليدية، في حين رآه آخرون صوتًا للعقل والمرونة في تربية الأبناء.
بين "الرضوخ الذكي" و"التربية الحازمة": هل يجب على الأهل دائمًا قول "لا" لأطفالهم؟
الفيديو الذي نشرته الطبيبة حصد مشاهدات واسعة وتعليقات متباينة، بين من اعتبر نصيحتها دعوة "للتدليل المُفرط"، ومن تفهّم الموقف بوصفه محاولة لإنقاذ الوالدين من الإرهاق والانهيار العاطفي في لحظات معينة.
متى يجب أن تقول "نعم" للطفل؟
ورغم أن دعوة دوفيكاس قد تبدو صادمة لأول وهلة، إلا أنها شرحت في الفيديو أن نصيحتها موجهة للأمهات والآباء الذين يمرّون بلحظات من الإرهاق النفسي أو الضغط الكبير، وحين تكون طلبات الطفل بسيطة وغير ضارة أو مخالفة للقيم.
تقول الطبيبة إن الاستجابة الذكية في هذه اللحظات يمكن أن تكون وسيلة مؤقتة لتفادي الانفعالات الزائدة، والصراخ، وربما الانفجار العاطفي، مضيفة أن قول "نعم" في الوقت المناسب ليس ضعفًا في التربية، بل قد يكون شكلًا من أشكال التنظيم العاطفي للأهل.
لا للرضوخ بعد الصراخ
لكن دوفيكاس وضعت حدودًا واضحة لهذه المرونة، موضحة أن الرضوخ للطلب بعد صراخ الطفل أو نوبة غضب يُعد خطأ تربويًا كبيرًا، لأنه يعزز في ذهن الطفل فكرة أن البكاء والانفعال وسيلة فعالة للحصول على ما يريد وهنا تتحول الاستجابة إلى نمط، وتفقد قيمتها التربوية.
دعم من خبراء علم النفس
في السياق ذاته، أيدت خبيرة علم النفس كيمبرلي بينيت طرح دوفيكاس، مشيرة إلى أن قول "نعم" في لحظات الضغط لا يعني أنك والد ضعيف، بل أنك تمارس نوعًا من الإدارة الذكية للموقف، بشرط ألا يتحول هذا إلى نمط دائم يشعر معه الطفل بأن جميع رغباته مستجابة دون حدود.
وتضيف بينيت أن الأطفال يحتاجون إلى فهم وجود قواعد وحدود، لكنهم في الوقت ذاته بحاجة إلى مساحة من التفاهم والحوار، خصوصًا في الأوقات التي يشعر فيها الأهل بالضعف أو التوتر.
التربية ليست استجابة دائمة
من جانبه، يرى طبيب الأطفال الأمريكي فيل بوشيه، في تصريحات لموقع Parents، أن التربية الناجحة لا تعني تلبية جميع رغبات الطفل، ولا تعني أيضًا قول "لا" دائمًا. بل يجب أن يكون هناك توازن مدروس بين التفهّم والحزم، يعتمد على السياق والموقف.
ويشدد بوشيه على أن بنية التربية السليمة تقوم على وضع حدود واضحة، تمنح الطفل شعورًا بالأمان، وتُعلّمه الصبر وضبط النفس، وهي مهارات أساسية في نموه النفسي والاجتماعي.
مهارات التفاوض بدلًا من التذمر
يشجع العديد من الخبراء التربويين على تعليم الأطفال مهارات التفاوض والتعبير عن الرغبات بطريقة محترمة، بدلًا من الاعتماد على التذمّر أو الصراخ.
فحين يُمنح الطفل فرصة لشرح طلبه بطريقة منطقية، فإن ذلك لا يساعد فقط الأهل على اتخاذ قرار مدروس، بل يعزز لدى الطفل مهارات التفكير النقدي، والتواصل الفعّال، وتحمل المسؤولية عن مشاعره ورغباته.
ماذا لو قررت تغيير رأيك؟
في حال قرر أحد الوالدين تغيير موقفه من "لا" إلى "نعم"، توصي الطبيبة ريبيكا دايموند بأن تتم مشاركة الطفل في سبب هذا التغيير، مع التأكيد على أن القرار لم يتغير بسبب بكائه أو ضغطه، بل بسبب تفكير منطقي ومعطيات جديدة.
بهذه الطريقة، يتعلم الطفل أن القرارات ليست نتيجة للانفعال، بل مبنية على الحوار والمرونة في التفكير، وهو درس مهم يغرس فيه روح العقلانية في التعامل مع المواقف.
التوازن هو الحل
في نهاية المطاف، يُجمع المتخصصون على أن الرفض المطلق أو الاستجابة المطلقة ليسا من أسس التربية السليمة. فهناك مواقف تستحق "نعم" لأسباب منطقية وإنسانية، وهناك مواقف تتطلب "لا" واضحة وقوية لحماية الطفل وتوجيهه.
التربية الذكية اليوم تتطلب من الأهل أن يكونوا مرنين دون أن يفقدوا سلطتهم، حازمين دون أن يكونوا قساة، متفهمين دون أن يدللوا بشكل مفرط.
وإذا كان على الأهل أن يتذكروا شيئًا واحدًا، فهو أن الطفل يتعلم من الموقف، لكن أيضًا من رد فعل والديه تجاه الموقف فكل "نعم" و"لا" هي فرصة لبناء شخصية مستقلة، واعية، قادرة على اتخاذ القرار، واحترام الآخرين.