كارناك: ذاكرة منقوشة على الأرض تحظى باعتراف دولي

اعتراف دولي بقيمة حضارية وروحية فريدة

لم يكن قرار لجنة التراث العالمي في باريس مجرد تصنيف إداري، بل اعتراف دولي بقيمة حضارية وروحية فريدة لموقع كارناك الأثري. هذه اللحظة، التي وصفها عمدة كارناك بأنها إنجاز تاريخي، تتوج سنوات من الجهد والتنسيق المحلي والدولي. الصخور التي لطالما أثارت فضول الباحثين والزوار، أصبحت أخيراً تحظى باعتراف رسمي بقيمتها الحضارية والروحية. كارناك، بحسب تصريحات الصحف الفرنسية، ليست مجرد موقع أثري، بل شهادة حية على عبقرية الإنسان في عصور ما قبل التاريخ. تضم المنطقة أكثر من 550 نصبًا حجريًا، بما في ذلك منحوتات واقفة، وأضرحة جماعية، وتلال دفن، بنيت جميعها بين 5000 و2300 قبل الميلاد، في نمط معمارى فلكي لا يزال يحير العلماء. تنتشر هذه التشكيلات على امتداد 28 بلدية، ضمن مساحة أساسية تبلغ نحو 19 ألف هكتار، محاطة بمنطقة عازلة تفوق 98 ألف هكتار، مما يجعل كارناك أضخم تجمع للمعالم النيوليثية في العالم، وأكثرها تنوعًا من حيث التصميم والغرض والرمزية.

 

كارناك: تجسيد لفهم الإنسان للزمن والطبيعة

وفقًا لليونسكو، فإن مواقع كارناك لا تعبر فقط عن طقوس دينية أو جنائزية، بل تجسد أولى محاولات الإنسان لفهم الزمن، الطبيعة، والموت، وتنقل من جيل إلى جيل عبر آلاف السنين. ولهذا فإن كارناك ليست مجرد حجارة، بل "ذاكرة منقوشة على الأرض". تبرر اليونسكو هذا الاعتراف بأن الصخور الضخمة تمثل شهادة استثنائية على التطور التقني والمهارة التي اكتسبتها مجتمعات العصر الحجري الحديث، والتي مكنتها من استخراج ونقل ومعالجة الأحجار الضخمة والتربة، لخلق مساحة رمزية معقدة تكشف عن علاقة خاصة بين السكان وبيئتهم. هذا الإنجاز التقني، الذي تحقق قبل آلاف السنين، يثير الإعجاب والدهشة، ويؤكد على قدرة الإنسان على الابتكار والإبداع حتى في ظل الظروف البدائية. إن فهم كيفية تمكن هؤلاء البشر من نقل ورفع هذه الأحجار الضخمة يظل لغزًا يثير فضول العلماء والباحثين حتى يومنا هذا. كارناك، بهذا المعنى، هي نافذة تطل على الماضي البعيد، وتساعدنا على فهم جذورنا وتطورنا كبشر.

 

تحديات الحفاظ على كارناك في ظل السياحة الثقافية

أشارت صحيفة نوفيل براكتيك إلى أن إدراج موقع كارناك على قائمة اليونسكو سيعيد توجيه أنظار العالم نحو بريتانى، مما يعني زيادة في السياحة الثقافية. لكن هذا الاعتراف يفرض في الوقت نفسه تحديات كبيرة في ما يتعلق بالحفاظ على البيئة، وتنظيم تدفق الزوار، وتوفير الحماية المناسبة لهذه المعالم الهشة. فرنسا، التي رفعت عدد مواقعها المدرجة على لائحة التراث العالمي إلى 54 موقعًا، تدرك تمامًا أن صخور كارناك لا تنتمي لها وحدها، بل للبشرية كلها. هذا الالتزام بالحفاظ على التراث العالمي يتطلب استثمارات كبيرة وجهودًا متواصلة لضمان بقاء هذا الموقع الفريد للأجيال القادمة. يجب أن تكون هناك خطط مدروسة لتنظيم السياحة، وتقليل الأثر البيئي، وتوفير الحماية اللازمة للمعالم الأثرية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك تعاون وثيق بين الحكومة الفرنسية والمجتمع المحلي لضمان أن يكون الحفاظ على كارناك مستدامًا وفعالًا.

 

فرنسا تعزز مكانتها على قائمة اليونسكو

صرحت وزيرة الثقافة الفرنسية، رشيدة داتي، بأن هذا هو الموقع الفرنسي الرابع والخمسون المُدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام ١٩٧٩. وأكدت أن هذا الاعتراف يجسد قيمته العالمية الاستثنائية، ويشهد على التزام فرنسا بالحفاظ على تراثنا. من بين الترشيحات الثلاثين التي تدرسها لجنة التراث العالمي هذا العام، قلاع الملك لودفيج الثاني ملك بافاريا، ومواقع تذكارية للإبادة الجماعية في كمبوديا، والمناظر الطبيعية الثقافية في الكاميرون وملاوي. هذا التنوع في المواقع المرشحة يعكس الثراء والتنوع الذي يميز التراث العالمي، ويؤكد على أهمية الحفاظ على هذه المواقع للأجيال القادمة. إن إدراج كارناك على قائمة اليونسكو هو شهادة على الجهود التي تبذلها فرنسا للحفاظ على تراثها الثقافي، ويؤكد على مكانتها كوجهة سياحية عالمية رائدة.

 

كارناك: نافذة على الكون وعلاقة الإنسان المبكرة به

يكمن السر في الدقة المعمارية التي استخدمها البشر قبل آلاف السنين في تنصيب هذه الأحجار، وتوجيهها الفلكي، واستخدامها في طقوس الموت والخصوبة وربما حتى التقويم الزراعي. يرى علماء الآثار أن كارناك لم تكن فقط مقبرة أو معبدًا، بل فضاءً طقوسيًا معقدًا يعكس علاقة الإنسان المبكرة بالكون. الأهمية لا تتوقف عند البعد التاريخي فقط، بل تمتد إلى بعدها الإنساني والبيئي، حيث أن الموقع يشمل 28 بلدية على مساحة تقارب 20 ألف هكتار، محاطًا بمنطقة عازلة تزيد عن 98 ألف هكتار، مما يجعله نموذجًا للتكامل بين التراث والمجتمع المحلي والطبيعة. ينتظر أن يفتح إدراج كارناك الباب أمام تدفق الزوار والسياحة الثقافية، مما يستدعي خططًا ذكية للحفاظ على هذه المعالم الحساسة، دون أن تُبتلع من موجات الاستهلاك البصري. إن الحفاظ على كارناك هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع، من الحكومة الفرنسية إلى المجتمع المحلي إلى الزوار والسياح. يجب أن نعمل جميعًا معًا لضمان بقاء هذا الموقع الفريد للأجيال القادمة، وأن يستمر في إلهامنا وتذكيرنا بتاريخنا المشترك كبشر.