إن يوم عرفة هو يوم مشهود، يوم من أعظم أيام الله، تتجلى فيه رحمات الباري سبحانه وتعالى على عباده، وتُسكب فيه العبرات، وتُرفع فيه الدعوات، وتُجاب فيه المسائل. إنه اليوم الذي يقف فيه الحجيج على صعيد عرفات الطاهر، ملبين مكبرين، ضارعين إلى ربهم، يرجون رحمته ويخشون عذابه. ولغير الحاج، يمثل هذا اليوم فرصة ثمينة للدعاء والذكر والصيام، طمعاً في مغفرة الذنوب والعتق من النيران. في هذا المقال، نستعرض بمشيئة الله تعالى أفضل الأدعية المأثورة والمستحبة في هذا اليوم العظيم، مع بيان فضله وكيفية اغتنامه على الوجه الأكمل.
فضل يوم عرفة ومكانته في الإسلام
يحتل يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، مكانة سامية ورفيعة في الدين الإسلامي الحنيف، فهو ركن الحج الأعظم الذي لا يصح الحج إلا به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" (رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني). وفي هذا اليوم العظيم، أتم الله سبحانه وتعالى الدين على المسلمين وأنزل قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة: 3)، فكان نزول هذه الآية في يوم جمعة ويوم عرفة. ومن فضائله العظيمة أن صيامه لغير الحاج يُكفّر ذنوب سنتين، سنة ماضية وسنة قادمة، كما ورد في الحديث الشريف: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" (رواه مسلم). إنه يوم يباهي الله تعالى فيه بأهل عرفات ملائكته، فيقول: "انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ، جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا" (رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني). كما أنه يوم العتق من النار، فما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة. هذه الفضائل الجمة تجعل من يوم عرفة موسماً استثنائياً للعبادة والدعاء والتقرب إلى الله تعالى.
لماذا يعتبر الدعاء يوم عرفة مستجاباً؟
يُعد الدعاء في يوم عرفة من أرجى الأدعية قبولاً واستجابة عند الله عز وجل، وذلك لعدة أسباب جوهرية مستمدة من النصوص الشرعية وفهم العلماء. أولاً، لقد نص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على خيرية الدعاء في هذا اليوم بقوله: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني)، وهذا النص النبوي الشريف كافٍ للدلالة على خصوصية الدعاء فيه. ثانياً، إن الله سبحانه وتعالى يدنو من عباده عشية عرفة ويباهي بهم الملائكة، وهذا القرب الإلهي الخاص وذلك الثناء الرباني يقتضيان إكرام الواقفين والداعين بالإجابة والعطاء. ثالثاً، اجتماع الحجيج من كل فج عميق على صعيد واحد، بقلوب خاشعة وألسنة ذاكرة، ورفعهم أكف الضراعة إلى رب واحد، لهو مشهد مهيب يزيد من رجاء القبول، فإن رحمة الله تتنزل على الجماعة. رابعاً، إن حالة الانكسار والتذلل والافتقار إلى الله التي يكون عليها الحاج في عرفة، من تجرد من المخيط والمحيط، وتحمل للمشقة، ووقوف في حر الشمس، كل ذلك من أسباب إجابة الدعاء. خامساً، إن يوم عرفة هو يوم مغفرة الذنوب وتكفير السيئات والعتق من النار، والدعاء بالمغفرة والرحمة هو من أعظم ما يُسأل الله تعالى، وهو سبحانه يحب أن يُسأل ويجيب السائلين، خاصة في مثل هذه المواطن المباركة. لذا، ينبغي للمسلم، حاجاً كان أو غير حاج، أن يغتنم هذه الفرصة العظيمة ويكثر من الدعاء بكل ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة.
خير الدعاء دعاء يوم عرفة: نص الحديث النبوي الشريف
لقد أرشدنا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أفضل ما يُقال في هذا اليوم المبارك، وهو دعاء يجمع بين التوحيد الخالص والثناء على الله عز وجل والإقرار بقدرته المطلقة. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني). هذا الحديث الشريف يُعتبر أصلاً في بيان فضل هذا الذكر العظيم في يوم عرفة. إنه ليس مجرد دعاء، بل هو شهادة التوحيد التي هي أساس الدين وأصل كل عبادة. وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خير ما قاله هو والأنبياء من قبله، مما يدل على عظم شأن هذه الكلمات وجلال قدرها. والإكثار من هذا الذكر في يوم عرفة هو امتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسير على نهجه ونهج الأنبياء الكرام، وهو من أعظم أسباب القرب من الله تعالى ونيل رضوانه ومغفرته في هذا اليوم الفضيل. ويستحب للمسلم أن يكرر هذا الذكر مائة مرة أو أكثر، وأن يجعله غالب ذكره في هذا اليوم، مع الجمع بينه وبين الأدعية الأخرى المأثورة والجامعة.
شرح دعاء "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"
إن هذا الذكر العظيم الذي هو خير ما قيل في يوم عرفة، يحمل في طياته معاني جليلة وأصولاً عقدية راسخة. فقولنا "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" هو إقرار بأنه لا معبود بحق إلا الله، وهو نفي لجميع الآلهة الباطلة التي تُعبد من دون الله، وإثبات للألوهية الحقة لله وحده. ثم يأتي التأكيد بقولنا "وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، وهذا تأكيد للوحدانية ونفي لأي شريك لله تعالى في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فلا ند له ولا نظير. أما قولنا "لَهُ الْمُلْكُ" فهو إقرار بأن الملك كله لله، ملك السماوات والأرض وما بينهما، فهو المالك المتصرف في خلقه كيف يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وقولنا "وَلَهُ الْحَمْدُ" هو إثبات لجميع المحامد لله تعالى، فهو المستحق للحمد كله، على أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى نعمه الظاهرة والباطنة، وعلى خلقه وأمره. وأخيراً، قولنا "وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" هو إقرار بكمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، فقدرته شاملة لكل موجود وممكن. فهذه الكلمات القليلة تجمع أصول التوحيد والثناء على الله تعالى، وهي مفتاح كل خير، ومن لزمها بصدق ويقين فتح الله عليه أبواب رحمته وفضله.
أدعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة
بالإضافة إلى الذكر الأعظم "لا إله إلا الله وحده لا شريك له..."، وردت أدعية أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يكثر منها في مواقف الدعاء بشكل عام، ويحسن الدعاء بها في يوم عرفة. من ذلك ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَالَّذِي تَقُولُ وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي وَإِلَيْكَ مَآبِي وَلَكَ رَبِّ تُرَاثِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ" (رواه الترمذي، وفي سنده ضعف، ولكن معانيه صحيحة ويمكن الدعاء به لعموم الأدلة على جواز الدعاء بما ليس فيه إثم أو قطيعة رحم). كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بجوامع الدعاء، مثل طلب خيرَي الدنيا والآخرة، والاستعاذة من شرهما. ويُستحب للمسلم أن يدعو بما فتح الله عليه من الأدعية، مع الحرص على الأدعية المأثورة الجامعة، وأن يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وأن يلح في الدعاء، فإن الله يحب الملحين في الدعاء.
أدعية جامعة من القرآن الكريم ليوم عرفة
القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، وهو أفضل الذكر، والدعاء بما ورد فيه من الأدعية له فضل عظيم ومنزلة رفيعة. وفي يوم عرفة، يحسن بالمسلم أن يتخير من أدعية القرآن الجامعة ما يناسب حاله وحاجته. من هذه الأدعية المباركة: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (البقرة: 201)، فهذا الدعاء من أجمع الأدعية لخيري الدنيا والآخرة. ومنها أيضاً: "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" (آل عمران: 8)، وهو دعاء عظيم بالثبات على الحق وطلب الرحمة الإلهية. وكذلك دعاء الاعتراف بالذنب وطلب المغفرة: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف: 23). ولطلب صلاح النفس والذرية: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ" (إبراهيم: 40). هذه الأدعية القرآنية وغيرها تمتاز بجزالة اللفظ وعمق المعنى وشمولية المقصد، والدعاء بها في يوم عرفة يجمع بين تلاوة القرآن والدعاء، وهو أمر محمود ومستحب، يرجى به القبول والإجابة.
كيفية الدعاء بخشوع وتضرع في يوم عرفة
إن استجابة الدعاء لا تتوقف فقط على اختيار ألفاظه، بل تعتمد بشكل كبير على حال الداعي وهيئته القلبية. ولتحقيق الخشوع والتضرع في الدعاء يوم عرفة، ينبغي للمسلم أن يستحضر عظمة الله تعالى وجلاله، وأن يتذكر فقره وحاجته إليه سبحانه. من الأمور المعينة على ذلك: استقبال القبلة ما أمكن، ورفع اليدين في الدعاء، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن رفع اليدين من آداب الدعاء ومن أسباب إجابته. كذلك، الإلحاح في الدعاء وتكراره ثلاثاً أو أكثر، وعدم اليأس من الإجابة، فإن الله يحب العبد اللحوح في دعائه. ومن المهم جداً حضور القلب واستشعار معاني ما يدعو به، فلا يكون الدعاء مجرد كلمات يرددها اللسان دون أن يعيها القلب. والبكاء من خشية الله أو التباكي إن لم يستطع البكاء، فإن الدمعة التي تسيل خوفاً من الله أو شوقاً إليه أو تذللاً بين يديه لها أثر عظيم. كما ينبغي أن يبدأ دعاءه بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختم دعاءه بذلك أيضاً، فإن هذا من أسباب قبول الدعاء. والتوبة الصادقة من جميع الذنوب والمعاصي، والإقرار بها بين يدي الله، مع العزم على عدم العودة إليها، يطهر القلب ويهيئه لاستقبال النفحات الربانية.
أفضل أوقات الدعاء في يوم عرفة (من الزوال حتى الغروب)
يوم عرفة كله وقت للدعاء والذكر، من طلوع فجره إلى غروب شمسه، ولكن هناك وقت يُعتبر هو الأفضل والأرجى للإجابة، وهو ما بين زوال الشمس (وقت الظهر) إلى غروبها. هذا الوقت هو الذي قضاه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة وهو واقف يدعو ربه ويتضرع إليه حتى غربت الشمس. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص" (رواه مسلم). فهذا الوقت، وخاصة عشية عرفة، هو ذروة اليوم، وفيه تتنزل الرحمات وتُستجاب الدعوات ويُعتق الله الرقاب من النار. لذا، ينبغي للمسلم، سواء كان حاجاً في عرفات أو مقيماً في بلده، أن يفرّغ نفسه في هذا الوقت قدر المستطاع، وينقطع عن شواغل الدنيا، ويُقبل على ربه بالدعاء والذكر والتضرع، سائلاً إياه من خيري الدنيا والآخرة، متمثلاً حال الواقفين في عرفات، بقلب خاشع ونفس منكسرة، طامعاً في كرم الله وجوده.
أهمية الإكثار من التهليل والتكبير والتحميد في يوم عرفة
إن يوم عرفة ليس فقط يوم دعاء، بل هو يوم ذكر لله تعالى بجميع أنواعه، ومن أعظم أنواع الذكر التي يُستحب الإكثار منها في هذا اليوم: التهليل، والتكبير، والتحميد. أما التهليل، وهو قول "لا إله إلا الله"، فقد مرّ معنا أنه جوهر دعاء يوم عرفة، وهو كلمة التوحيد الخالص. وأما التكبير، وهو قول "الله أكبر"، فهو إعلان لعظمة الله وكبريائه، وأنه أكبر من كل شيء، وهو شعار عظيم من شعائر الإسلام، يُشرع في الأعياد والمناسك وعند رؤية ما يُعجب أو يُفزع. وأما التحميد، وهو قول "الحمد لله"، فهو اعتراف بنعم الله وشكر له على آلائه التي لا تُعد ولا تُحصى. وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر وعائشة وغيرهما من الصحابة يكثرون من التكبير في أيام التشريق ويوم عرفة. والإكثار من هذه الأذكار يملأ القلب نوراً، ويطرد الشيطان، ويُعين على الخشوع في الدعاء، ويُثقل الميزان يوم القيامة. فهي كلمات خفيفات على اللسان، ثقيلات في الميزان، حبيبات إلى الرحمن.