في الوقت الذي يشهد فيه العالم الغربي انخفاضاً مستمراً في معدلات الخصوبة واستقراراً في عدد المواليد، يزداد توجه الأفراد نحو تبني الكلاب كبديل عاطفي واجتماعي عن إنجاب الأطفال، ما يثير تساؤلات حقيقية حول طبيعة مفهوم "الأسرة" في المستقبل، ومآلات النمو السكاني على المدى البعيد.

 

الكلاب بدلاً من الأطفال: تحول ثقافي أم هروب من الضغوط؟

تشير الأرقام إلى أن ما بين ثلث ونصف الأسر في دول مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا تمتلك كلباً واحداً على الأقل، في وقت تتراجع فيه الخصوبة إلى مستويات تنذر بالخطر في العقود المقبلة.

 

هذه الظاهرة لم تعد مجرد نمط معيشي فردي، بل تتجه لأن تصبح سمة اجتماعية تعكس تحولات عميقة في القيم، والأولويات، والضغوط التي يعيشها الجيل الحديث.

 

من الشريك في الصيد إلى فرد من العائلة

في دراسة نشرتها مؤخرًا مجلة "ساينس أليرت"، قام الباحثان لورا جيليت وإينيكو كوبيني من جامعة إيتفوس لوراند في المجر باستكشاف الجوانب الثقافية والاجتماعية التي تقف خلف هذا التوجه المتنامي نحو تربية الكلاب.

 

ويعيد الباحثان التأكيد على أن العلاقة بين الإنسان والكلب ليست جديدة، بل تمتد إلى آلاف السنين، حين كانت الكلاب تلعب دورًا نفعياً واضحاً في الحماية والصيد.

 

لكن ما تغيّر هو سياق هذه العلاقة فاليوم، لم تعد الكلاب مجرد حيوانات أليفة، بل أصبحت تُعامَل كأفراد من العائلة، في مشهد يعكس حاجة عاطفية واضحة، لكنها أيضاً رد فعل على الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بتكوين أسرة وإنجاب الأطفال.

 

ليس بديلاً… لكنه خيار واقعي

يرى الباحث كوبيني أن غالبية أصحاب الكلاب لا يرونها بديلاً كاملاً عن الأطفال، بل يعبرون من خلالها عن احتياجات إنسانية أساسية مثل الحب، والرعاية، والدعم المتبادل ويؤكد أن "الكلاب والأطفال ليسوا متنافيين، وأن هناك متسعًا لكليهما في قلوب البشر، إن لم يكن في جيوبهم".

 

في المقابل، تشير لورا جيليت إلى أن الالتزامات المرتبطة بتربية الكلاب، رغم أنها ليست بلا تكاليف، تعد في نظر كثير من الناس أقل إرهاقاً من متطلبات تربية الأطفال، من حيث الوقت، والمصاريف، والضغوط المجتمعية.

 

هذه النقطة الجوهرية تفسّر لماذا يجد كثير من الشباب الراحة في تربية كلب، مقارنة بقرار الإنجاب الذي يُنظر إليه كمشروع طويل الأمد، ومليء بالتحديات.

 

تراجع الخصوبة.. هل تلام الكلاب؟

رغم الشعبية المتزايدة للكلاب كرفقاء حياة، فإن الباحثين يرفضان تحميلها مسؤولية تراجع معدلات المواليد فعلى عكس بعض التفسيرات السطحية التي تربط بين ارتفاع تربية الكلاب وانخفاض الإنجاب، ترى الدراسة أن الظاهرة أعمق من ذلك، وترتبط ببنية المجتمع المعاصر الذي يعاني من ضغوط اقتصادية، وتحديات بيئية، وأزمات سكن وتعليم، تجعل قرار الإنجاب مؤجلاً أو مستبعداً عند فئة واسعة من الناس.

 

تضيف الدراسة أن تربية الكلاب ليست عاملاً مانعاً للإنجاب، بل قد تتعايش معه في كثير من الحالات، خصوصاً في بيئات تقدم دعماً اجتماعياً ومؤسسياً للأسرة.

 

وترى أن البشر قد تطوروا لرعاية الآخرين بشكل عام، سواء كانوا أطفالاً أو حتى حيوانات، وهو ما يعزز فكرة أن "الاهتمام والرعاية" نزعة إنسانية تتجاوز الحدود التقليدية.

 

العزلة والكلاب.. دواء نفسي في عصر الانفصال

تحت ضغط العزلة المتزايدة، باتت الكلاب تؤدي دوراً معنوياً مهماً لدى شريحة كبيرة من الناس، خصوصاً أولئك الذين يعيشون بمفردهم أو يعانون من فجوة في الروابط الاجتماعية؛ وتشير دراسات طبية إلى أن وجود الحيوانات الأليفة قد يساعد في التخفيف من الاكتئاب، والقلق، والشعور بالوحدة.

 

لكن الباحثين يحذرون من الوقوع في فخ "استبدال الأطفال بالكلاب" بشكل مطلق فالعلاقة بين الإنسان وذريته لا يمكن مقارنتها بالكامل بتلك التي تربطه بالحيوان، مهما بلغ حجم العاطفة والاهتمام فالأطفال يحملون امتداداً بيولوجياً وثقافياً للأجيال، في حين تظل العلاقة مع الحيوانات محدودة بحدود الرعاية والمرافقة.

 

مع تقدم المجتمعات الغربية في السن، وتزايد أعداد كبار السن مقابل انخفاض عدد المواليد، يواجه العالم احتمال تغيّر البنية الديمغرافية بشكل جذري في هذا السياق، يطرح كثير من الباحثين تساؤلات عن مآل مفهوم الأسرة، وإن كان سيظل مرتبطاً بالروابط البيولوجية فقط، أم سيتوسع ليشمل علاقات رعاية وعاطفة تتجاوز هذا الإطار التقليدي.

 

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الكلاب ستظل جزءاً من هذا المشهد المتغير، ليس كبديل للأطفال، بل كمؤشر على تحولات أعمق تمس القيم الاجتماعية، والهياكل الأسرية، وأولويات الأفراد في عالم معقد ومتسارع.

 

في نهاية المطاف، الكلاب لا تحل محل الأطفال، لكنها باتت تعكس بطريقة أو بأخرى، صورة إنسان العصر الحديث، الباحث عن الحب، والدعم، والانتماء… بأبسط الطرق وأصدقها.