تخيل أن تقف على أعتاب حلم، ليس كأي حلم، بل هو ما تمناه قلبك أعوامًا طويلة أن تقطع مئات الكيلومترات من الجنوب الليبي نحو العاصمة، تحمل في حقيبتك القليل، وفي صدرك الكثير من الرجاء أن تقترب خطوات من الكعبة، ثم تقال لك جملة واحدة كفيلة بأن تهدم كل شيء:

 

هكذا كادت أن تغلق أبواب الحج في وجه الحاج الليبي عامر المنصور، لكن ما حدث بعد ذلك جعل قصته تروى، وتحفظ، وتتداول بين الناس لا كحكاية مسافر عابر، بل كدرس في النية الصافية، واليقين، والتسليم لله.

 

عامر، رجل بسيط من أعماق الجنوب الليبي، لا يحمل إلا جواز سفر، وحقيبة صغيرة، ونية كبيرة حين وصل إلى المطار ضمن آخر دفعات الحجاج، قيل له هناك مشكلة في أوراقه، وأن اسمه مدرج في قائمة موقوفة، وأن الطائرة غادرت، ولا فرصة أخرى.

 

من حوله دموع، أصوات نداء، ركض المسافرين، وهو واقف هناك، وحده، هادئ لا يصرخ، لا يحتج، فقط رفع عينيه إلى السماء، وقال بصوت ثابت: "والله، نيتي بيت الله... ولن تقلع الطائرة بدوني"

 

ما هي إلا دقائق، حتى تعطلت الطائرة التي كانت من المفترض أن تُقله الحجاج إلى الأراضي المقدسة اضطر الطاقم إلى العودة لإنهاء بعض الإجراءات، ولم يسمح لعامر بالصعود

انتظر، لم يغادر المطار، لم يغلق قلبه، ولم يتأفف.

 

ثم، للمرة الثانية، تتوقف الطائرة مجددًا عن الإقلاع سبب مختلف، لكن النتيجة واحدة: الطائرة تعود، وعامر لا يزال هناك، واقفًا على نية لا تهتز.

عندها، قال الطيار، أمام الجميع: "والله، لن أطير حتى يركب عامر"

 

ركب عامر الطائرة، في لحظة لا تنسى، وفي مشهد انسابت فيه دموع الركاب قبل عمال المطار لم يكن انتصارًا على لوائح السفر أو القوائم الأمنية، بل كان انتصارًا للنية، التي إن صفت، تحركت من أجلها أسباب السماء.

 

قصة الحاج عامر لم تكن فقط عن رجل أراد الحج وسافر، بل عن قوة النية إذا صدقت، وعن أن ما كتب لك، لن يحجبه أحد، وأن العوائق، مهما بدت صلبة، قد تذوب أمام دعاءٍ خافت، أو يقين في قلب نقي.

 

إنه درس لنا جميعًا، في زمن أصبحت فيه الحياة سريعة، والفرص شحيحة، والقلوب مثقلة بالتردد قصة تذكرنا أن الإصرار لا يحتاج إلى صوت مرتفع، ولا إلى سلطة أو نفوذ، بل إلى نية تخاطب السماء.

 

ما نتعلمه من عامر

 

  • أن ما تأخر عنك، قد يكون يُرتّب لك بطريقة أعظم مما تتوقع.
  • أن الأبواب التي تغلق في وجوه الناس، قد تفتح لواحد فقط، لأنه جاء بنية مختلفة.
  • أن الإنسان حين يسلم أمره لله، تتحرك له الأسباب دون أن يسعى إليها بقوة، بل برضا.
  • أن اليقين بالله ليس فقط أن تدعو، بل أن تنتظر الإجابة وكأنها قادمة لا محالة.