ارتفع سعر الذهب عالميًا بأكثر من ألف دولار، مما يُظهر الزيادة التاريخية التي شهدها في ظل ظروف اقتصادية وجيوسياسية غير مستقرة وقد عاد الذهب ليظهر بقوة كعنصر محوري في الاستراتيجيات الاقتصادية للدول الكبرى، حيث لم يعد مجرد احتياطي، بل أصبح "ورقة سياسية" في صراعات النفوذ فكلما تزعزعت الثقة في العملات الورقية أو زادت التوترات الدولية، زاد بريق المعدن الأصفر.
" الذهب" وسيلة جيوسياسية لوضع توازنات جديدة
في يناير 2025، أعلنت البنوك المركزية في مختلف دول العالم أنها قامت بشراء أكثر من 1000 طن من الذهب في العام الذي مضى كما شهدت تداولات الذهب العالمية زيادة بنسبة 20% في يناير، نتيجة ارتفاع أحجام التداول في أسواق المال وخارجها وقد ارتفع سعر الذهب بحوالي 30% منذ بداية العام، وحوالي 8% منذ إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية الشاملة.
حيث توجد العديد من الأرقام والأمثلة، لكن ما يجمع بينها هو أن المستثمرين غالباً ما يلجأون إلى الملاذات الآمنة لحماية أموالهم من الخسائر في أوقات تقلب الأسواق.حيث يسهم دعم القطاع الرسمي للذهب في الحفاظ على استقراره خلال الفترات الصعبة بشكل أفضل من المعادن النفيسة الأخرى، وفقاً لتقرير صدر عن بنك "يو بي إس"، وهذا يفسر الأداء القوي الذي يحققه الذهب ويقول المدير الإداري المركزي لشركة جولد سيلفر في سنغافورة، براين لان: "سيبقى الذهب قويًا ما دام هناك حالة من عدم اليقين".. لكن هل يتعلق هذا الكلام فقط بالأفراد والمستثمرين، أم أن الموضوع أكثر تعقيدًا وأوسع من ذلك؟
حيث بدأت الدول الكبرى مثل الصين وروسيا بوضع استراتيجيات تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار، مما دفعها إلى تعزيز احتياطياتها من الذهب على سبيل المثال، تشجع الصين استخدام اليوان المدعوم بالذهب في بعض التبادلات التجارية الثنائية، وهو ما يُعتبر خطوة باتجاه نظام مالي متعدد الأقطاب.
وفي خطوة غير مسبوقة، سمحت الحكومة الصينية لأول مرة لشركات التأمين في البلاد بشراء الذهب، مما يفتح إمكانية استثمار تبلغ قيمته 27.4 مليار دولار في المعدن الأصفر؛ وتشير التقديرات إلى أنه يتم استخراج 3000 طن من الذهب سنوياً، حيث كانت الصين هي الدولة التي استخرجت أكبر كمية من الذهب في عام 2024، تليها روسيا وكندا والولايات المتحدة.
وبالنسبة لروسيا التي تأثرت بشكل كبير بالعقوبات الغربية، فقد اتجهت إلى الذهب بشكل مكثف وشهدت السنوات الأخيرة زيادات ملحوظة في احتياطياتها من هذا المعدن الثمين ووفقًا لتقارير البنك المركزي الروسي، فإن البلاد تمتلك الآن أكثر من 2300 طن من الذهب، مما يمثل حوالي 20% من احتياطياتها الدولية.
في هذا السياق، قامت تركيا التي شهدت ارتفاعاً في معدلات التضخم بتعزيز احتياطياتها، ليشكل الذهب 30% من إجمالي احتياطياتها الرسمية، وذلك في إطار سعيها لتقوية وضعها المالي أمام المخاطر الاقتصادية؛ دول أخرى مثل البرازيل والهند أظهرت أهمية الذهب كوسيلة للحد من المخاطر المرتبطة بالأسواق المالية الغربية والعديد من التحديات التي يواجهها الدولار.
وهذا يوضح الزيادة الكبيرة في أسعار الذهب في مقابل انخفاض العملة الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ ثلاث سنوات، في ظل تراجع ثقة المستثمرين، خصوصًا بسبب التهديدات المتكررة لاستقلالية البنك المركزي الأمريكي، فضلاً عن وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بأنه فاشل بسبب قراراته المتعلقة بأسعار الفائدة.
مستقبل الذهب
مع الزيادة المتسارعة في تقلبات الأسعار والخلل في الأسواق العالمية، أشارت توقعات غولدمان ساكس إلى أن سعر الذهب قد يصل إلى 3700 دولار للأونصة بحلول نهاية عام 2025، وقد يتجاوز 4000 دولار للأونصة في منتصف عام 2026.
حيث تعتمد هذه التوقعات على تزايد العوامل الجيوسياسية والطلب المتزايد على الذهب كوسيلة وقائية من المتوقع أن تستمر عمليات الشراء القوية للذهب من القطاع الرسمي، بالإضافة إلى طلب التنويع من مجالات المجتمع الاستثماري التي تقل حساسية تجاه أسعار الفائدة؛ بينما تعتبر الشعوب الذهب وسيلة لحفظ القيمة في ظل التضخم، تستخدمه الدول كأداة استراتيجية لتعزيز احتياطياتها أو كوسيلة ضغط غير مباشر في نزاعات النفوذ المالي.
لم يعد الذهب مجرد عنصر ثمين، بل أصبح لاعباً أساسياً في اللعبة الاقتصادية العالمية، حيث تتضح من خلاله ملامح الصراع بين الدولار والعملات الأخرى، وتدور حوله حروب خفية بين البنوك المركزية الكبرى.