ورد إلى دار الإفتاء المصرية سؤال حول حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد، حيث يرى البعض أن تبادل التهاني بقدوم العام الهجري من البدع، بحجة أن بداية العام ليست من الأعياد التي يُهنَّأ بها، وإنما هو أمر ابتدعه الناس. وقد أجابت دار الإفتاء على هذا السؤال بتفصيل وافٍ، موضحةً مشروعية التهنئة بالعام الهجري الجديد ومستندةً إلى الأدلة الشرعية وأقوال العلماء.

 

الحكمة من جعل الهجرة النبوية بداية التقويم الإسلامي

 

أوضحت دار الإفتاء أن الهجرة النبوية حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية، استحق أن يكون بداية للتقويم الإسلامي؛ لما مثّله من معانٍ سامية ورفيعة. كانت الهجرة دليلًا جليًّا على تمسك المؤمنين بدينهم، حيث هاجروا إلى المدينة تاركين وطنهم وأهلهم وبيوتهم وأموالهم، لا يرغبون في شيء إلا في العيش مسلمين لله تعالى. وقد مدحهم الله سبحانه وأشاد بهم في القرآن الكريم، كما أنها كانت البداية الحقيقية لإقامة بنيان الدولة الإسلامية، ووضع أحكامها التشريعية، التي صارت أساسًا لإنشاء النظم المجتمعية، وضبط العلاقات الإنسانية والدولية، وإقرارًا لمبدأ التعايش والتعددية. ولأجل ذلك اختار الصحابة رضي الله عنهم الهجرة بداية للتقويم الإسلامي، وذلك بعد التشاور والتداول في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليضعوا للناس شيئًا يعرفون به تواريخهم ومعاملاتهم. ووقد تم اختيار الهجرة النبوية تحديدًا بعد اقتراحات عديدة منها التأريخ ببعثة النبي أو وفاته، ولكن تم الاستقرار على الهجرة لما مثلته من نقطة تحول في تاريخ الإسلام.

 

الحكمة من اعتبار أول شهر المحرم بداية العام الهجري

 

أشارت دار الإفتاء إلى أن بداية العام الهجري في أول شهر المحرم ليس هو يوم هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانت هجرته صلى الله عليه وآله وسلم في ربيع الأول. وإنما كان العزمُ على الهجرة والاستعداد لها في استهلال المحرم بعد الفراغ من موسم الحج الذي وقعت فيه بيعة الأنصار. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" أنهم أخّروا البدء بالعام الهجري إلى المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ.

 

حكم تبادل التهنئة بقدوم العام الهجري الجديد

 

أكدت دار الإفتاء أن التهنئة برأس العام الهجري استحضار للعديد من المعاني التي يجوز شرعًا التهنئة عليها. ففيها امتثال للأمر القرآني بتذكر أيام الله تعالى، وما فيها من نعم وعبر وآيات. فالهجرة يوم عظيم من أيام الله تعالى، ينبغي أن يتذكره ويسعد به البشر كلهم؛ لأن الهجرة كانت البداية الحقيقية لإرساء قوانين العدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، وإقرار مبدأ المواطنة بين أبناء الوطن الواحد مع اختلاف العقائد، والتعايش والسلام ونبذ العنف. كما أن فيها تذكر لنصر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة على مشركي مكة، بأن يسر له أمر الانتقال إلى المدينة والدعوة إلى الله فيها وحفظه من إيذاء المشركين، وانتقل بذلك من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، مما كان سببًا لنصرة الإسلام وسيادته. وقد تقرر أن التهنئة إنما تكون بما هو محل للسرور، ولا شيء يسر به المسلم قدر سروره بيومِ نصرِ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخيرًا، فإن رأس السنة الهجرية بداية لعام جديد، وتجدد الأيام وتداولها على الناس هو من النعم التي تستلزم الشكر عليها؛ لأن الحياة نعمة من نعم الله تعالى على البشر، ومرور الأعوام وتجددها شاهد على هذه النعمة، والتهنئة عند حصول النعم مأمور بها.

 

الرد على دعوى أن التهنئة بالعام الهجري الجديد بدعة

 

رفضت دار الإفتاء الادعاء بأن بداية العام ليست من الأعياد فلا تصح التهنئة عليها، مؤكدةً أن التهنئة لا تقتصر على الأعياد، فهي مشروعة عند حدوث النعم، واندفاع النقم، ولا يخفى ما في بداية العام من تجدد نعمة الحياة على كل إنسان. ثم إن بداية العام تتكرر؛ فهي عيدٌ في المعنى، وأهل اللغة يسمون كل ما يعود "عيدًا". وقد نص الفقهاء على استحباب التهنئة بقدوم الأعوام، والشهور، والأيام. واستشهدت دار الإفتاء بأقوال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي، والعلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي، والعلامة القليوبي، وغيرهم من العلماء الذين أقروا باستحباب التهنئة بالعيد ونحوه من العام والشهر. وبناءً على ذلك، فإن دار الإفتاء ترى أنه يستحب التهنئة بقدوم العام الهجري؛ لما في التهنئة به من إحياء ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وما فيها من معان سامية وعبر نافعة، وقد حث الشرع على تذكر أيام الله وما فيها من عبر ونعم، كما أنه بداية لعام جديد، وتجدد الأعوام على الناس من نعم الله عليهم التي تستحب التهنئة عليها. فالتهنئة بالعام الهجري ليست بدعة، بل هي أمر مستحب لما فيها من خير وتذكير بنعم الله.