فى ساعات الليل التى قفزت إلى ما بعد منتصفه، كنت عائدًا إلى منزلى بعد عناء يوم عمل شاق، متواصل، متوتر إثر متابعة ما يجرى حولنا، أصوات الصواريخ والقنابل ومشاهد الدمار ومتابعة ناقلات الأخبار القادمة من طهران ومن الأرض المحتلة تطغى على مشاهد ليل القاهرة الهادئ بعد إجازة العيد التي تمددت لتطال أيام ما بعد الإجازة.
لا يزال نيل القاهرة يتدفق، يتلألأ بالألوان الزاهية رغم الأخطار التى تحيط به وبنا، وأنا أشق الطريق إلى ضاحية المعادى فى سيولة مرورية قلما تعايشها إلا فى الإجازات وفي أوقات الليل المتأخر، انحرفت يسارًا، وعلى اليمين تتقاطع عدة مقاهٍ بأبراج عثمان المطلة على النيل. زحام غير معهود، تذكرت على الفور أن مباراة لكرة القدم ستبدأ مع الثالثة فجرًا بين النادي الأهلى وإنتر ميامى الأمريكي. أسر بكاملها تتابع تحليلات ما قبل المباراة، سيارات تتراص فى أوضاع فوضوية تعيق المرور، مررت إلى حيث أقيم.
شغلنى ذلك المشهد وتساءلت: هل هى حالة من حالات الهروب؟ هروب من سيل الأخبار المحيط بنا؟ قوات الدعم السريع تحتل المثلث الحدودى بين مصر وليبيا والسودان، قنابل الموت وصواريخ المجرم نتنياهو تتساقط على رؤوس أهلنا فى غزة، طيران العدو يستبيح سماء طهران، عراك فى ليبيا والبحر الأحمر مهدد... ربما يكون هروبًا أو خلودًا إلى سبات لذيذ، أسوأ ما فيه أن يصاب لاعب فى كاحل قدمه اليسرى!
تذكرت ما كتبه المبدع الكاتب رشاد كامل فى مقدمة كتابه «لغز يونيو ١٩٦٧: الهزيمة والعقاب»، عندما قال: فقد كتب مراسل الصنداى تايمز فى القاهرة، فيليب ناتالي، قبل أسبوع واحد من الحرب، يقول: «ليس فى القاهرة ما يوحى بأن هذه الدولة على حافة الحرب».
ويضيف كامل: «أكثر من هذا كان حال كرة القدم هو الشغل الشاغل للناس فى مصر، واهتزت مصر كلها لتصريح لعلى زيوار قال فيه: إن نقطة الضعف الأساسية فى لاعبينا هى النسوان»، لقد تفاعل الناس فى مصر عندما وجدوا الملحق الرياضى الذى تصدره جريدة الجمهورية وهو يقول فى عدد خمسة يونيو مانشيت أحمر من ثلاث كلمات: «انتصرنا... انتصرنا... انتصرنا». نعم، لقد انتصر الفريق القومى لكرة القدم على أوغندا بهدف واحد مقابل لا شيء!!
وصلت أخيرًا إلى منزلى ولم يكن ذهنى قادرًا على الاستسلام لنوم تلح عليه كافة تفاصيل جسدى المتعب، واستمرت متابعتى لما يجرى. كانت طهران قد بدأت فى جولة تسجيل الأهداف بعد أن ظن بعضنا أن إيران تمر بما مرت به مصر فى يونيو ١٩٦٧م.
وكنت أتابع عواصم عربية عبر مواقع التواصل الاجتماعى وأدركت حجم القهر الذى تتعرض له أجيال لم ترَ من أوطانها إلا كل خزى وعار وهزيمة، فى لبنان، تظاهرات بالدراجات البخارية فرحًا باختراق صواريخ إيران لمنظومة الدفاع الجوى التى تساهم فيها أمريكا وفرنسا وبريطانيا كما لو كنت أهدافًا للفريق القومى اللبنانى!
مدن يمنية وضعت الشاشات الضخمة فى الساحات لمتابعة مباراة يسجل فيها ممثل عنا أهدافًا بالجملة فى مرمى كان مصونًا بالتضليل والكذب والخداع، مرمى أرادوه نظيفًا منذ زرع الكيان فى قلوبنا قبيل منتصف القرن الماضى بعامين، مدن عراقية تفرح كما لو كانوا على مقربة من الفوز بكأس العالم!
وعواصم أخرى تتحدث عن الروافض باعتبار بلادهم امتلكت صكوك غفران العصر الحديث، وأخرى تغرق فى بحور الترفيه المغموسة بروائح الاغتراب وفقدان الهوية، وثالثة يحادثك بعض كبرائها عن ضبط النفس واتصالات وهمية من أجل إيقاف العدوان.
وحدها طهران تواجه قوى الشر فى العالم، ووحدها تخوض الحرب العالمية الثالثة التى يقف فيها هذا العالم كله شرقه وغربه باستثناء إسلام آباد التى خرج وزير دفاعها فى وقفة رجل خلت منطقتنا العربية من أمثاله، ووحدها تقف القاهرة حائرة بعد أن حاصرها الجميع بقيد الديون اللعين.
أى قهر وأى عهر وأى ظلم هذا الذى زرعته الأنظمة فى قلوب ملايين العرب؟ ولماذا يتكبَّد علينا أن نعيش فى منطقة لا تُثمر فيها إلا محاصيل الخيانات والبيع والهزيمة والخضوع والركوع والهوان؟ أى ذنب هذا الذى ندفع ثمنه لكى يحكمنا ويتحكم فينا بالنار والحديد من تديرهم أحذية الغرب الحقيرة؟
عدت بذاكرتى إلى سنوات ليست بعيدة عندما زرت طهران وعدة مدن إيرانية، وطهران عاصمة جميلة، خضراء، نظيفة، تستطيع أن تقرأ على جدران حواريها وأزقتها وشوارعها وميادينها القديمة سطورًا حضارية قلما تراها فى عواصم أخرى.
والناس فى طهران بسطاء وتخلو مكاتب الوزراء من مظاهر «البهاء» التى لا ترى مثيلًا لها إلا فى عالمنا العربي، بهاء كاذب لا أصل له ولا فرع، والإيرانيون بنوا لهم وطنًا يصنع كل شيء، أفادهم حصار الغرب باستقلال جعلهم يصنعون غذاءهم وسلاحهم فى تجربة لها ما لها وعليها ما عليها.
وإيران ليست ساحة للملائكة، إيران دولة تعمل على خدمة مصالحها وهذا حقها، ومصالح إيران الآن من مصالح محيطها الذى لا يجب أن يفد إليه غريب، ولا يجب أن تخضع لسيطرة الكيان الصهيونى ممثل الشر فى العالم، والوقوف معها ليس اختيارًا يمكن أن نناقشه. الوقوف إلى جانب إيران يعنى عدم تسليم مفاتيح المنطقة كلها لكيان غاصب ومحتل.
وإيران التى رأيتها، وبعيدًا عن التاريخ والحضارة، فهى تمتلك شعبًا أبيًا، عزيزًا، فخورًا بهويته، ترى تلك الهوية فى الناس والجدران والأشجار والمتاحف والمكتبات والآثار التى تركتها أجيال بعد أجيال، ترى ملامح إنسان من الصعب أن يقبل الضيم والانكسار والهوان.
وحدها منطقتنا التى قبلت كل شيء ورفعت شعار «اليد التى لا تستطيع قطعها قبّلها»... أفقت من بحر أفكارى فيما رأيت فى إيران على جلبة وصرخات متتالية فى الشوارع من حولي، استطلعت الأمر... كاد الأهلى أن يحرز هدفًا فى مباراته المقامة بالولايات المتحدة الأمريكية!
على مدار ثمانية عشر شهرًا وأنا أرى أطفالًا فى غزة بلا رؤوس، وآخرين أخرجناهم بعد أن احترقوا، وفريق ثالث فقد الأب والأم وكل العائلة، ورأيت كيف يمارس الكيان الصهيونى القتل منهجًا ووسيلة وهواية، وكنت أتساءل: هل يقبل إنسان أيا كانت هويته مثل هذا الأمر؟
والحق أقول إننى لم أجد تفسيرًا لأفراح عارمة تعم شعوب العالم العربى بضربات إيران فى عمق الكيان الذى كان يصوَّر للعالم أنه لا يُقهر، أفراح بهذا الخراب الذى حلَّ بمدنهم وبيوتهم ومراكز أبحاثهم ومعسكراتهم، لم أجد تفسيرًا إلا أنها الكراهية التى خلفها هذا الكيان على مدار سبعة وسبعين عامًا من القهر والقتل والتدمير.
أعود بذاكرتى إلى إيران من الداخل، عاصمة تفوز لسنوات عدة بالمركز الأول بين العواصم الخضراء، جميلة بهية، تتمتع بأعرض مساحة للطبقة المتوسطة فى محيطها رغم الحصار المرعب، استطاعت أن تمتلك بنية نووية تحتية تفوق الـ ٣٥ ألف عالم ذرة، واستطاعت أن تبنى مفاعلات وتصنع سلاحًا وتملك خبرات فى الطائرات المسيرة وكل صنوف الاستقلال عن الغرب ورغمًا عنه.
لا تزال الشاشة التى تحتل نصف الحائط فى منزلى تعرض صورًا لدمار يطال مساحات هائلة من الأرض المحتلة، ترامب الذى كان يتفاخر بعد الضربة الصهيونية الأولى بأن إدارته على علم وأن إيران لابد وأن تأتى منكسرة ذليلة، ها هو نفسه يعود للحديث عن ضرورة وقف القتال... قالها بعد أن رأى كيانهم تحت سيطرة الزلزال المدوي.
وترامب الذى كان يظن انهيار إيران يعود مرة أخرى ليتحدث عن دعم أمريكا للكيان بنظام دفاع جوى شاركت فيه دول غربية عدة، وأعلنت بريطانيا القميئة أن أسلحة بلادها فى الطريق إلى الكيان، وفرنسا التى أعلن رئيسها فى البداية أن الكيان من حقه الدفاع عن نفسه عاد بعد الضربات الإيرانية فى العمق الصهيونى ليطالب بضرورة وقف القتال.
عالمنا العربى حدث ولا حرج، القاهرة محاصرة بالنار من كل صوب، والسودان قدر له أن يعيش المأساة بأموال عربية، وبغداد خرجت من المعادلة باحتلال الطائفية، ولبنان غارق فيما ترسمه عواصم الهوان لها، وسوريا، رحم الله سوريا بعد احتلال ثلة من الخونة الذين قدموا إلى دمشق على دبابات صهيونية.
لن أحدثك عن عواصم غارقة حتى الثمالة فى الحداثة والرؤى الجديدة وفق ما رسمه الغرب، فالغرب دومًا كان هناك مقيمًا، متحكمًا، حاكمًا، ولن أحدثك عن ذلك الوهم الذى غرقوا فيه عندما تصوروا أن مؤامرتهم على سوريا هى ثورة، وأن مؤامرتهم على بغداد خلاص من بعبع القوة المهيمنة.
أعود إلى كل من رفعوا علم إيران، إلى من قالوا «كلنا إيران»، إلى كل متعاطف سجين نظام بلاده، إلى كل مؤمن بأن لدينا أمة سجينة داخل أنظمتها، أعود إلى كل حالم باستقلال وكرامة وكبرياء، إلى كل من يرى أن إيران تخوض حربًا عالمية وحدها، أعود فأقول: حلمنا لم يعد فى مساحات الأرض التى نعيش عليها... حلمنا هناك فى كل بقعة مقاومة... فى إيران، وفى صنعاء، وفى الجنوب اللبناني، وفى كل مكان يرفض الخضوع مهما كانت جنسيته أو ديانته.
نقلا عن العدد الورقي