في لوحة روحانية تهز المشاعر وتفيض بالرهبة والخشوع، توافد ملايين الحجاج منذ ساعات الصباح الأولى إلى صعيد عرفات الطاهر، ملبّين نداء الله بألسنةٍ متعدّدة وقلوبٍ موحّدة، في مشهد يتكرر مرة واحدة في العمر، لكنه يبقى محفوراً في الذاكرة ما حييت.

 

منذ طلوع الفجر، امتلأت الطرقات المؤدية إلى مشعر عرفات بالحافلات والمركبات التي تقل ضيوف الرحمن، وكل حاج يحمل في قلبه أمنية، وفي عينيه دمعة، وفي لسانه دعاء هناك، على امتداد السهل الرحب، التقت ملايين الأرواح في توقي واحد إلى المغفرة والرحمة، وانصهرت الجنسيات والثقافات واللغات في لباس الإحرام الأبيض الذي لا يفرق بين غني وفقير، ولا بين عربي وأعجمي، فالكل أمام الله سواء.

 

ومع اشتداد حرارة الشمس، لم يتراجع الحجاج عن أداء ركن الحج الأعظم، بل بقوا في أماكنهم لساعات طويلة، تتخللها تلاوات للقرآن، وأدعية لا تنقطع، وتكبيرات ترتفع إلى السماء، تصاحبها دمعات صامتة، وأصوات متأثرة تردد: "اللهم اغفر لنا.. اللهم ارحمنا.. اللهم تقبل منا" بعضهم بكى خفية، وآخرون جهروا بالبكاء تأثراً بجلال الموقف، وكأن الأرض كلها تصغي، والسماء تتلقى هذا الدعاء الصادق من قلوب أنهكتها الذنوب وأحيتها هذه الوقفة.

 

من جانبها، واكبت الجهات المنظمة هذه الجموع الغفيرة بخطط مدروسة وإجراءات دقيقة، ضمنت انسيابية الحركة وسهولة الوصول إلى عرفات، وتوزيع الحجاج على الساحات والمظلات كما انتشرت الفرق الطبية وفرق الهلال الأحمر السعودي لتقديم الرعاية الصحية، ومعالجة أي حالات طارئة، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة والإجهاد الجسدي.

 

كذلك وفّرت قوات الأمن ورجال المرور والفرق التطوعية بيئة آمنة ومهيأة، ساعدت الحجاج على أداء النسك في جو من السكينة والطمأنينة، دون ازدحام أو تعطيل ويأتي ذلك في إطار الجهود المتواصلة التي تبذلها المملكة العربية السعودية سنوياً لإنجاح موسم الحج بكل تفاصيله.

 

يوم عرفات ليس كباقي الأيام، ففيه تتنزل الرحمات، وتغفر الذنوب، ويقع فيه أعظم المشاهد في الإسلام بعد أركان الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحج عرفة"، ولهذا يتسابق فيه الحجاج إلى اغتنام كل لحظة في الدعاء والتضرع والابتهال.

 

ويتوافق يوم عرفة مع الذكرى السنوية لخطبة الوداع، التي ألقاها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على هذا الجبل قبل أكثر من 1400 عام، مؤكداً فيها على وحدة المسلمين وحرمة دمائهم وأموالهم، ومغلقاً باب الجاهلية، ومفتتحًا عهد الرسالة الخاتمة.

 

وما يميز هذا المشهد السنوي العظيم أن الإنسان يرى فيه تجسيداً عملياً لوحدة الأمة، فالجميع يجتمع في مكان وزمان واحد، بنية واحدة، ومقصد واحد: الله لا أسماء ولا ألقاب، لا جنسيات ولا لغات، الكل "عبد لله" في لباس أبيض بسيط، ينتظر لحظة القبول، ويستشعر القرب من الخالق عز وجل، في حالة صفاء لا تتكرر.