بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يأتي يوم عرفة كل عام حاملاً معه نسائم الرحمة والمغفرة، ومشاعل النور والهداية. إنه يومٌ مشهودٌ، تعظم فيه الحسنات، وتُقال فيه العثرات، ويُستجاب فيه الدعاء. وإن كانت قلوب الملايين تهفو إلى صعيد عرفات الطاهر، حيث يقف الحجيج في أعظم مشهدٍ إيماني، فإن فضل هذا اليوم وبركته لا يقتصران عليهم وحدهم، بل يمتدان ليشمل المسلمين في كل بقاع الأرض. فغير الحاج له نصيبٌ وافرٌ من خيرات هذا اليوم، وفرصةٌ سانحةٌ للتقرب إلى الله واغتنام نفحاته الربانية.
هذا المقال هو دليل شامل للأعمال المستحبة التي يمكن لغير الحاج أن يقوم بها في يوم عرفة، ليشارك إخوانه الحجاج فرحتهم الروحية، وينال من الله الأجر العظيم والمغفرة الواسعة.
أولاً: صيام يوم عرفة – درع الوقاية وكفارة العامين
يُعد صيام يوم عرفة لغير الحاج من أعظم القربات وأجلّ الطاعات. وقد ورد في فضله ما يبعث على الشوق والحرص على أدائه:
- فضله العظيم: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ" (رواه مسلم). يا لها من منحة عظيمة! صيام يوم واحد يمحو ذنوب سنتين كاملتين، سنة مضت بما فيها من تقصير، وسنة قادمة يستهلها العبد بصفحة بيضاء ونفس طاهرة.
- المشاركة الروحية: في صيام هذا اليوم، يشارك المسلم غير الحاج إخوانه الحجاج في بعض معاني هذا اليوم، حيث يمسك عن الطعام والشراب والشهوة، متشبهاً بهم في تفرغهم للعبادة، ومتذكراً جوعهم وعطشهم في سبيل الله.
- تزكية النفس وتهذيبها: الصيام مدرسة لتهذيب النفس، فهو يعلّم الصبر، ويقوي الإرادة، ويُذكّر بنعم الله على العبد، فيدفعه إلى الشكر والتواضع.
- النية الصادقة: ينبغي على من أراد صيام يوم عرفة أن يُبيّت النية من الليل، أو قبل طلوع الفجر، وأن يكون صيامه خالصاً لوجه الله تعالى، لا رياء فيه ولا سمعة.
- اغتنام لحظات الإفطار: عند الإفطار، للداعي دعوة لا تُرد، فليحرص الصائم على الدعاء لنفسه وأهله والمسلمين بخيري الدنيا والآخرة.
إن صيام يوم عرفة هو بمثابة درع يقي المسلم من آفات الذنوب، وفرصة لتطهير النفس والارتقاء بها في مدارج القرب من الله.
ثانياً: الإكثار من الذكر – غذاء الروح وحياة القلوب
يوم عرفة هو يوم ذكر ودعاء بامتياز. وكما أن للحجاج نصيبهم الأوفر من الذكر على صعيد عرفات، فإن غير الحاج مدعوٌ لأن يجعل لسانه رطباً بذكر الله طوال هذا اليوم المبارك.
- خير الذكر في يوم عرفة: كما مرّ معنا في فضل الدعاء، فإن خير ما يُقال في هذا اليوم هو: "لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". هذا الذكر هو إعلان للتوحيد، وتمجيد لله، واعتراف بقدرته وملكه. فليُكثر المسلم من ترديده مئات المرات، بل الآلاف إن استطاع، متدبراً معانيه العظيمة.
- التكبير (الله أكبر): يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهذه الأيام هي أيام الذكر والتكبير. يُسنّ لغير الحاج أن يُكثر من التكبير المطلق (في كل وقت وحين) والمقيد (أدبار الصلوات المكتوبة، ويبدأ لغير الحاج من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق). وصيغ التكبير المشهورة: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد". "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً".
- التهليل (لا إله إلا الله): فهي كلمة التوحيد التي قامت عليها السماوات والأرض، وهي مفتاح الجنة، وأفضل الذكر.
- التحميد (الحمد لله): شكر الله على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، والاعتراف بفضله وكرمه.
- التسبيح (سبحان الله): تنزيه الله عن كل نقص وعيب، وإثبات الكمال المطلق له.
- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: من أعظم أسباب قبول الدعاء، ورفع الدرجات، ومغفرة السيئات. قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا".
- الاستغفار (أستغفر الله): طلب المغفرة من الله، والاعتراف بالتقصير والزلل. يوم عرفة هو يوم المغفرة، والاستغفار فيه له شأن عظيم.
إن الذكر هو السلاح الذي يواجه به المسلم غفلته، وهو النور الذي يستضيء به في دروب الحياة، وهو الصلة التي لا تنقطع بين العبد وربه. فليجعل غير الحاج يوم عرفة مهرجاناً للذكر، يلهج لسانه وقلبه بتمجيد الله وتعظيمه.
ثالثاً: الدعاء – مخ العبادة وسلاح المؤمن
رغم أننا أفردنا مقالاً خاصاً للدعاء في يوم عرفة، إلا أنه لا بد من التأكيد عليه كعمل أساسي ومستحب لغير الحاج في هذا اليوم.
- جوهر اليوم: الدعاء هو العبادة، وهو من أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه في يوم عرفة. فليستغل غير الحاج هذا اليوم في التضرع إلى الله، وسؤاله من خيرَي الدنيا والآخرة.
- التركيز والإلحاح: ينبغي أن يكون الدعاء بحضور قلب، وخشوع، ويقين بالإجابة. وأن يُلحّ العبد في دعائه، ويكرره، ولا ييأس من رحمة الله.
- أوقات الإجابة: يوم عرفة كله وقت للدعاء، ولكن أرجى الأوقات للإجابة هي عشية عرفة، أي من بعد صلاة الظهر (أو العصر بعد جمعهما ظهراً لمن يجمع) إلى غروب الشمس. فهذا الوقت هو الذي يتجلى فيه الله على عباده، ويباهي بهم الملائكة. فليحرص غير الحاج على تخصيص هذا الوقت للدعاء والابتهال.
- الدعاء للنفس والأهل والمسلمين: لا يقتصر الدعاء على النفس فقط، بل ينبغي أن يشمل الوالدين، والأهل، والذرية، والأصدقاء، وجميع المسلمين، الأحياء منهم والأموات. فدعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة.
رابعاً: قراءة القرآن الكريم – نور وهداية وشفاء
كلام الله هو خير الكلام، وقراءته عبادة جليلة، خاصة في الأيام الفاضلة كيوم عرفة.
- تدبر الآيات: لا تقتصر القراءة على مجرد تحريك اللسان، بل ينبغي أن يصاحبها تدبر وفهم لمعاني القرآن الكريم، ومحاولة تطبيق ما فيه من أوامر ونواهٍ.
- الخشوع والتأثر: قراءة القرآن بخشوع وتأثر تزيد من الإيمان، وتُرقّق القلوب، وتُقرّب العبد من ربه.
- تخصيص ورد قرآني: يمكن لغير الحاج أن يخصص لنفسه ورداً من القرآن يقرؤه في يوم عرفة، سواء كان جزءاً أو أكثر، أو سوراً معينة يجد فيها قلبه.
- الاستماع إلى القرآن: إذا كان الشخص لا يستطيع القراءة، أو أراد التنويع، فيمكنه الاستماع إلى تلاوة عطرة للقرآن الكريم، ففي الاستماع أجر وثواب.
إن القرآن هو ربيع القلوب، ونور الصدور، وجلاء الأحزان. فليكن لغير الحاج حظٌ وافرٌ من تلاوته وتدبره في هذا اليوم العظيم.
خامساً: الصدقة والإحسان – برهان الإيمان وتطهير المال
الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وهي دليل على صدق الإيمان، وسبب في نماء المال والبركة فيه، وتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء.
- مضاعفة الأجر: الصدقة في الأيام الفاضلة، كيوم عرفة، يُرجى أن يكون أجرها مضاعفاً عند الله تعالى.
- مواساة المحتاجين: في الصدقة مواساة للفقراء والمحتاجين، وإدخال للسرور على قلوبهم، وتحقيق للتكافل الاجتماعي بين المسلمين.
- أنواع الصدقة: لا تقتصر الصدقة على المال فقط، بل تشمل كل أنواع الإحسان: إطعام الطعام، كسوة العاري، مساعدة المريض، الكلمة الطيبة، الابتسامة في وجه أخيك، إماطة الأذى عن الطريق، كل ذلك من صور الصدقة.
- السر والعلانية: تجوز الصدقة في السر والعلانية، ولكن صدقة السر أفضل لأنها أبعد عن الرياء، إلا إذا كان في إظهارها مصلحة كتشجيع الآخرين على البذل.
فليحرص غير الحاج على أن يكون له نصيب من الصدقة والإحسان في يوم عرفة، يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة.
سادساً: التوبة الصادقة النصوح – بداية جديدة وصفحة بيضاء
يوم عرفة هو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، وهو فرصة عظيمة للتوبة الصادقة والعودة إلى الله.
- شروط التوبة النصوح:
- الإقلاع عن الذنب فوراً.
- الندم على ما فات من المعاصي والتقصير.
- العزم الأكيد على عدم العودة إلى الذنب أبداً.
- وإذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي، فيجب رد الحق إليه أو طلب المسامحة منه.
- تجديد العهد مع الله: التوبة هي بمثابة تجديد للعهد مع الله، وفتح لصفحة جديدة ملؤها الطاعة والاستقامة.
- عدم اليأس من رحمة الله: مهما بلغت ذنوب العبد، فإن رحمة الله أوسع، وباب التوبة مفتوح لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها. قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر: 53).
فليجعل غير الحاج من يوم عرفة منطلقاً لتوبة صادقة، يغسل بها أدران الماضي، ويستقبل بها مستقبلاً مشرقاً في طاعة الله.
سابعاً: صلة الأرحام – بركة في الرزق وطول في العمر
صلة الأرحام من أعظم ما أمر به الإسلام، وهي سبب للبركة في الرزق، والزيادة في العمر، ونيل رضا الله تعالى.
- تأكيد الأمر بها: حث الإسلام على صلة الأرحام في آيات وأحاديث كثيرة، وحذر من قطيعتها.
- أشكال صلة الرحم: تكون صلة الرحم بالزيارة، والسؤال عن الأحوال، وتقديم المساعدة، والهدية، والدعاء لهم، وحسن الخلق معهم، والتغاضي عن زلاتهم.
- اغتنام يوم عرفة: يمكن لغير الحاج أن يجعل من يوم عرفة مناسبة لتفقد أرحامه، والاتصال بهم، وإصلاح ما فسد من العلاقات، ابتغاءً للأجر والثواب.
ثامناً: عموم الطاعات وأفعال الخير – اغتنام كل فرصة للبر
باب الخير واسع، والأعمال الصالحة لا حصر لها. فينبغي لغير الحاج في يوم عرفة أن يحرص على كل ما يُقرّبه من الله، وأن يجتنب كل ما يُبعده عنه.
- حسن الخلق: معاملة الناس بالحسنى، والكلمة الطيبة، والتبسم، وكف الأذى.
- بر الوالدين: الإحسان إليهما، وطاعتهما في غير معصية، والدعاء لهما.
- إدخال السرور على المسلمين: قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، ومساعدتهم قدر المستطاع.
- اجتناب المعاصي واللغو: الحرص على حفظ الجوارح من الوقوع في الآثام، وتجنب مجالس اللغو والغيبة والنميمة، وكل ما يُضيع الوقت فيما لا فائدة فيه.
- النية الصالحة: استحضار النية الصالحة في كل عمل يقوم به، حتى المباحات كالأكل والشرب والنوم، فبالنية الصالحة تتحول العادات إلى عبادات.
تاسعاً: تهيئة الجو الإيماني في البيت والمحيط
لكي يستفيد غير الحاج من يوم عرفة على أكمل وجه، يُستحب له أن يهيئ جواً إيمانياً في بيته ومحيطه:
- تشجيع الأهل على الطاعة: حث أفراد الأسرة على الصيام، والذكر، والدعاء، وقراءة القرآن.
- تقليل المشتتات: الابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يشغل عن ذكر الله وعبادته، مثل التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي إلا فيما ينفع.
- الشعور بالارتباط بالمسلمين: استشعار وحدة الأمة الإسلامية، والدعاء للحجاج بالقبول والسلامة، والدعاء للمسلمين في كل مكان بالنصر والتمكين والفرج.
خاتمة: يوم عرفة لغير الحاج – غنيمة لا تُفوَّت
أخي المسلم، أختي المسلمة، إن يوم عرفة هو هدية من الله إليك، فلا تضيّعها. هو فرصة لتطهير نفسك، ورفع درجتك، والفوز بمغفرة ربك. استثمر كل دقيقة من هذا اليوم الثمين في طاعة الله وذكره ودعائه. صُم يومك، وأكثر من ذكر ربك، واقرأ كتابه، وتصدق من مالك، وتب إلى خالقك، وصل أرحامك، وأحسن إلى خلق الله.
اجعل من يوم عرفة نقطة تحول في حياتك، بداية لعهد جديد مع الله، عنوانه الطاعة والاستقامة والإخلاص. وتذكر دائماً أن الله قريب مجيب، لا يخيب من دعاه، ولا يرد من رجاه.
نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يوفقنا وإياكم لاغتنام هذا اليوم المبارك على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار، وأن يعيد علينا هذه الأيام الفاضلة ونحن في خير وعافية وإيمان.
والحمد لله رب العالمين.