في زمن تحكمه السرعة، وتتصدر فيه "الترندات" عناوين كل يوم، خرج جيل جديد على الساحة الرقمية، يقود منصة تيك توك، ويعيد تعريف مفاهيم التأثير والمحتوى والنجاح، هذا الجيل لا ينتظر كاميرات التلفاز، ولا يطرق أبواب شركات الإنتاج، بل يصنع شهرته من غرفة نومه، بكاميرا هاتفه، وأفكار لا تخلو من الجرأة، وربما الجنون أحيانًا.
جيل التيك توك: ما بين بريق الشهرة وسؤال القيمة
لكن خلف كل فيديو يحقق مليون مشاهدة، هناك سؤال كبير يفرض نفسه: هل ما يقدمه هذا الجيل مجرد عرض مبهر؟ أم أن هناك قيمة حقيقية تستحق التوقف عندها؟
في السابق، كانت الشهرة حلمًا يتطلب سنوات من العمل والصبر، وربما حظًا كبيرًا. أما اليوم، فكل ما تحتاجه هو فيديو مدته 30 ثانية، فكرة غريبة أو رقصة ملفتة، وتصبح حديث الجميع، تيك توك منح الشباب منصة مفتوحة، لا تعترف بالخبرة، ولا تنتظر الاعتراف. كل شخص يمكن أن يكون نجمًا لليلة واحدة، وربما لأشهر طويلة.
هذا التحول لم يكن سهلًا على المجتمعات التقليدية، التي كانت ترى في الفن رسالة وفي الشهرة مسؤولية. فهل أصبح كل شيء مباحًا في سبيل كسب المشاهدات؟
بعيدًا عن الفيديوهات الراقصة والتحديات الغريبة، هناك جانب آخر لا يُسلط عليه الضوء كثيرًا، شباب وشابات اختاروا أن يستخدموا تيك توك لنشر الوعي، وتقديم محتوى هادف، من طبيب يشرح معلومات طبية مبسطة، إلى معلمة تقدم دروسًا للأطفال بطريقة ممتعة، وصولًا إلى فنانين يعرضون مواهبهم في الرسم والعزف والتمثيل.
هذا التيار الهادف، وإن لم يكن دومًا "تريند"، إلا أنه يترك أثرًا عميقًا في المتابعين، هؤلاء لا يبحثون فقط عن الإعجابات، بل يسعون لصناعة فرق حقيقي، حتى لو كان صغيرًا.
ما لا يدركه البعض أن التأثير الرقمي سلاح ذو حدين، فالفيديو الذي تظنه "ساخرًا" قد يترك أثرًا سلبيًا في مشاعر الآخرين، والمعلومة الخاطئة قد تسبب ضررًا كبيرًا إذا صدّقها الجمهور.
لذلك، فإن صناع المحتوى الحقيقيين يعرفون أن الكلمة مسؤولية، وأن الشهرة ليست مجرد عدد متابعين.
لكن في ظل غياب الرقابة الفعالة، يبقى المشاهد هو الحكم الأول والأخير، وهنا تأتي أهمية التوعية بطرق اختيار المحتوى الجيد، ومتابعة المؤثرين الذين يقدمون ما يستحق فعلاً أن يشاهد.
بين الإبداع والابتذال
لا شك أن تيك توك أطلق العنان لإبداعات كانت حبيسة الجدران، كثير من الموهوبين وجدوا فيه فرصة حقيقية للتعبير عن أنفسهم. لكن في المقابل، فتح الباب أيضًا للمحتوى السطحي، بل وحتى المبتذل أحيانًا.
وهنا تتضح المفارقة، نفس المنصة التي احتضنت المواهب، ساعدت أيضًا في صعود أسماء لا تملك سوى القدرة على إثارة الجدل، فهل المطلوب أن تكون صادقًا؟ أم أن الأهم أن تكون مثيرًا للانتباه بأي وسيلة؟
من الصعب التنبؤ بمستقبل هذا الجيل الرقمي. لكن ما يمكن تأكيده أن منصات مثل تيك توك ستظل جزءًا أساسيًا من حياتهم. وربما تتحول من مجرد وسيلة للترفيه إلى أداة للتغيير المجتمعي. خاصة إذا استخدمت بطريقة ذكية ومدروسة.
الرهان الحقيقي هو على وعي المستخدمين، وقدرتهم على التمييز بين ما يُضحكهم للحظة، وما يُفيدهم طويلًا. بين من يُقدم فنًا حقيقيًا، ومن يُطارد الشهرة الفارغة.
جيل التيك توك ليس مجرد جيل رقمي؛ هو جيل يعكس تحولات عميقة في مفاهيمنا عن الإعلام والتأثير.
وبين من يركض خلف "التريند"، ومن يسعى لترك بصمة، تبقى الحقيقة واحدة: المستقبل يصنعه من يحسن استخدام أدواته، لا من يلهث خلف أضوائه.