الثانوية العامة: مأساة مستمرة
تظل الثانوية العامة في العالم العربي بمثابة "آلة من الارتباك والحزن والحيرة"، تجتاح مئات الألوف من البيوت كل عام. الصراع للحصول على مجموع مرتفع، يؤهل لدخول ما يُسمى "كليات القمة"، يستمر عامًا كاملاً أو أكثر. هذه الكليات، من وجهة نظر المجتمع، هي التي تضمن لخريجيها الحصول على وظيفة مرموقة، وتحقيق مكانة اجتماعية محترمة. بينما يُنظر إلى خريجي الكليات الأخرى بازدراء، ويُغلق سوق العمل في وجوههم، مما يزيد من الإحباط واليأس لدى الطلاب وأسرهم. ورغم ظهور العديد من الجامعات الخاصة والأهلية، إلا أن تكاليفها الباهظة تجعلها بعيدة المنال بالنسبة لأغلبية السكان.
الذكاء الاصطناعي يهدد الوظائف التقليدية
في خضم هذه الأجواء المشحونة بالقلق، يظهر إعلان شركة "ميتا" عن تطوير ذكاء اصطناعي فائق، يتجاوز قدرات العقل البشري، ليثير مخاوف حقيقية بشأن مستقبل العمالة الإنسانية، خاصة في العالم العربي. هذا التطور السريع في مجال الخوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، لم يعد مقتصرًا على برامج التسلية والألعاب، بل امتد ليشمل مجالات حيوية مثل الطب، حيث أصبح التشخيص بالذكاء الاصطناعي أكثر دقة من التشخيص البشري، وحتى كتابة الدواء. هذا التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، يهدد بتقليص الوظائف التي كانت حكرًا على الإنسان، والتي يعتمد عليها الكثيرون في إعالة أسرهم.
إعادة هيكلة التعليم ضرورة حتمية
في ظل هذه المتغيرات المتسارعة، لم يعد هناك مبرر لحالة الهلع التي تصيب الطلاب وأسرهم، بسبب عدم الحصول على درجات عالية في الثانوية العامة. فكما أن سوق العمل المستقبلي يتشكل من جديد، يجب أن تُعاد هيكلة النظم التعليمية، لتواكب هذه التغيرات الجذرية في سلم الأولويات الوظيفية. يجب أن تتغير العقلية العربية، بحيث لا يكون التركيز فقط على "كليات القمة"، بل على اكتساب المهارات والمعرفة التي يحتاجها سوق العمل المتغير. ففكرة "كليات القمة" لم تعد مجدية في عالم تتغير احتياجاته يومًا بعد يوم. وقد حذرت العديد من المجلات العالمية، مثل مجلة فوربس الأمريكية، من أن العديد من الوظائف بشكلها الحالي سوف تندثر تمامًا، أو تتأثر سلبًا، بسبب الذكاء الاصطناعي والروبوتات.
التفكير الإبداعي هو الحل
لكل زمن وظائفه، ولكل زمن احتياجاته. لا يعني فقدان الوظائف الحالية أن الملايين سيبقون بلا عمل، بل ستُستحدث وظائف جديدة تستوعب الأكثرية، بشرط التفوق والإبداع، والخروج من العقلية التقليدية التي تركز على مهن محددة. يجب أن نركز على تنمية التفكير الإبداعي لدى الشباب، وتشجيعهم على التميز في المجالات التي يميلون إليها، وتتوافق مع قدراتهم ومواهبهم. فالعالم يتغير بسرعة، وصورة الوظائف الحالية ستختلف كليًا بعد بضع سنوات. لذلك، يجب على أولياء الأمور والحكومات والمؤسسات التعليمية، أن يواكبوا هذا التغيير، وأن يفتحوا المجال للمبدعين في مجال التخطيط، لرسم رؤية مستقبلية قصيرة الأمد، لمواكبة التغيير الحادث.
مطلوب ثورة تعليمية في العالم العربي
لا ينبغي تجاهل ما يدور في العالم من حولنا، ومطلوب ألا نظل في منأى عن المتغيرات، حتى لا نتحول إلى مجرد سوق استهلاكي للمنتج الغربي. يجب أن نضع بصمة عربية تتوافق مع احتياجاتنا نحن وأمتنا، هويتنا التاريخية والدينية، وحضارتنا المتجذرة في التاريخ. على علماء الأمة في كل مجالاتها صناعة رؤية مستقبلية خاصة بنا نحن العرب والمسلمين، لنمنح أنفسنا وأبناءنا فرصة وجودية في المستقبل. وعلى أولياء الأمور أن يهدأوا قليلًا، ويكفوا عن جلد أبنائهم، فملامح المستقبل القريب لم تتحدد بعد، والمهم هو الاستعداد لهذا المستقبل بالتعليم الإبداعي والتفكير النقدي.