ما أعرفه ويتردد فى أوساط النخبة من وقتها، أن طيفا واسعا من فصائل الحركة المدنية استخلصت حكما بصعوبة ضبط الأمور مع الإخوان، واستحالة التعايش بين رؤيتين متضادتين بالكلية للدولة والهوية الوطنية الجامعة.
وعندما تدخل الفريق السيسى فى فاصل مبكر من شهر يونيو؛ فإنه لم يُبد ميلا لطرف على حساب الآخر، ولا أنه مدفوع بأجندة سابقة التجهيز. صحيح أنه لمّح أولا ثم صرّح تاليا بأنه لن يُجانب الإرادة الشعبية، أو يقف على الجبهة المضادة لها؛ إلا أنه تلقّى مطالبات المصريين الغاضبة وعمل على تكييفها وفق حدود معقولة، وصالحة لتأسيس ما بعدها على قاعدة من المكاشفة والتقارب المتدرج بين الفرقاء.
ولا دليل أجلى من أنه حتى صبيحة الثالث من يوليو ترك الباب مفتوحا على احتمال التهدئة، وأمّن مقعدا لممثل الإخوان بين القوى المدعوّة إلى اجتماع خارطة الطريق.
بحسب شهادة موثقة بصريا للدكتور يونس مخيون، الرئيس السابق لحزب النور السلفى؛ فقد دُعيت الأحزاب والتيارات الإسلامية من كل الأطياف إلى اجتماع فى قصر القبة قبل ساعات من دعوات التظاهر يوم 30 يونيو.
عرض الرئيس مرسى فى المُستهل ما قال إنها مبادرة من وزير الدفاع، تشتمل على نقاط عدّة ليس من بينها إزاحة النظام على الإطلاق، وأهمها: المصالحة مع القضاء، واحتواء غضبة المعارضة والشارع، ووضع ميثاق للشرف الإعلامى بعد ما شاع حينها من تجاوزات واسعة.
وما إن انتهى من كلامه؛ حتى قبض الكتاتنى على طرف الخيط مباشرة، داعيا إيّاه إلى عدم الالتفات للجدل المثار بشأن شرعية السلطة وانضباط إجراءاتها، ومشددا على أن الشعب بكامله يصطف إلى جانبه، خصوصا بعد خطابه العظيم قبلها بعدّة أيام.
وبهذا؛ وقعت المصادرة الاستباقية على بقية الحضور، وكان طبيعيا أن تتوصل خلاصة المناقشات الموجهة والمُدارة بالغلبة والإحراج إلى مزيد من التشدد فى المواقف، وأن تُسفر فى الأخير عن رسالة تتضمن الرد بالرفض.
ومما تتناقله قنوات الرموز وبعض ناشطى حركة تمرّد، من حصيلة المداولات وجلسات العمل آنذاك، أن باقة الخيارات الممكنة والمحتملة وُضعت على الطاولة، من أول تغيير الحكومة وفق منطق الشراكة والتمثيل الواسع، إلى الاستفتاء على شرعية مرسى أو عرضه مجددا على انتخابات رئاسية مبكرة، ولم تكن مسألة إسقاطه مطروحة حتى تلك اللحظة.
إلا أن فريقا من الكبار، كان على رأسه الدكتور محمد البرادعى نائب الرئيس المؤقت بعدها، اتخذ موقفا أكثر وضوحا وحدّية، خلاصته أنه لا سبيل لتقويم الإخوان وإخضاعها لمقتضيات السياسة الرشيدة، ولا بديل عن إطاحتها وإعادة الولاية لأصحابها الأصليين من عموم المصريين.
وتكتمل الرواية بأن البنود الأساسية فى الخطة التالية/ خارطة الطريق، استُقر عليها خلال تلك الاجتماعات، وعُرضت على بقية المشاركين فى جلسة يوليو، وما استُحصل منها بالتوافق العام أقرّه الجيش نزولا على الإرادة الشعبية.
كانت الأجواء ملبّدة بالغيوم قبل ذلك بشهور عدّة، ومساحة الارتياب والظنون واسعة ولا تتوقف عن التمدد. خُدعت الساحة من الإخوان مرتين: مشاركة لا مغالبة فى مجلس النواب، ثم إلهاء الآخرين فى فوضى الشارع وأحداث محمد محمود، لأجل التمكن من احتكار السلطة التشريعية، ومن بعدها قالوا إنهم لن يشاركوا فى الرئاسيات؛ لكنهم رشحوا اثنين من كوادر التنظيم وثلاثة أو أكثر من حلفائه وخلاياه النائمة، وأتموا ابتلاع السلطة التنفيذية؛ فلم يتبق إلا القضاء.
والأخير تحرشوا به عدة مرات فى مدى زمنى محدود: حصار المحكمة الدستورية، وإرهاب القضاة، وإقالة النائب العام، والإعلان الدستورى غير الشرعى المُحصّن لقرارات مرسى.
وعليه؛ فالاشتباك مع جميع الأطراف كان حصيلة ممارسات فجّة وفادحة، زاد من فداحتها أنها تتابعت وتراكمت فى أقل من سنة، وكانت تُنبئ بخطورة ما بعدها، وبأن التنظيم يستعجل مشروع التمكين بوتيرة هائجة، وإن تأمّنت بواكير محاولاته المكشوفة فقد لا يعود ممكنا الوقوف أمامهم لاحقا، ناهيك عن وهم استعادتهم إلى حظيرة الوطنية والتوافق.
لم تكن الهبّة الشعبية نتاج الفشل الإدارى، ولا غياب الرؤية والمشروع؛ بل لأنهم أصروا على احتكار الحُكم وخصخصة المجال العام، بالرغم من افتقاد الكفاءة والجاهزية، فضلا على الكفر الصريح بالفكرة المدنية وما وراءها من التزامات المواطنة والتعايش والفصل بين السلطات.
حركة تمرّد الشابّة كانت محاولة لنقب الجدران العالية التى أرستها الجماعة، والتشدد الصاعد فى مطالبها ابتُدئ من معرفة عميقة بالتنظيم، وتطور تفاعليا مع تعاطيه المتعالى والملىء بالإنكار والاستكبار على الشركاء وهواجسهم، وعلى حاجات البلد ومقتضيات مصلحته العليا.
ومن ثمّ؛ فلا يصح النظر للثورة من زاوية اللائحة المطلبية التى كانت هادئة ثم اصطخبت فجأة، ولا فى ضوء حصيلة الأيام الأخيرة من الأخذ والرد والجدل؛ إنما تعود وقائعها فى حقيقة المشهد إلى التلاعب بشباب يناير بين إحجام وإقدام، واقتحام السجون، واستعراض القوة على الناس والبطش بهم فى الشوارع، وصولا إلى مساعٍ لم تكن خفيّة لاختراق هياكل الدولة وأخونتها من داخلها، وامتلاك عناصر القوة الذاتية ممثلة فى استجلاب تجربة الحرس الثورى، والعمل على إعادة إنتاج تجربة الثورة الإسلامية فى إيران.
اتضح بما لا يحتمل الشك أو التأويل، أن الإخوان ما أتوا ليُغادروا؛ ولو بالديمقراطية والصناديق. قابلية الفكرة كانت تُوجب عليهم قدرا من التواضع إزاء الرافضين ممن وقعوا على استمارات تمرد، والواقعية كان من مقتضياتها أن يتسلموا رسائل ملايين المتظاهرين استجابة لدعوة الحركة، وأن يلحظوا ما فيها من تصويت مضاد أو تصحيحى لما كان قبل سنة واحدة فقط.
لكنهم بدلا من التفهم غلّظوا جلودهم وأغلقوا أبواب عقولهم، وتمسكوا بسردية الشرعية المؤسسة على الاستحقاق الانتخابى حصرا؛ فيما يعيشون مع غيرهم فى مناخات ثورة تقوم وتتعثر، وتستكمل وصفتها وشرعيتها هى نفسها بالتجربة والخطأ.
كان موقفا أشبه ما يكون بفعلة جبهة الإنقاذ الجزائرية فى فاتحة العشرية الدموية السوداء، ومنطق على بلحاج عن ديمقراطية المرة الواحدة، أو السلالم التى يرتقيها الصاعد ثم يُطوحها فى الهواء؛ حتى لا يُدركه منافس ولا يُجبَر على النزول.
ما كان عليهم أن يشردوا عن المسيرة، وحتى بعد الشرود ظل بالإمكان أن يستدركوا على أنفسهم، وأن يُصوّبوا انحرافاتهم ويعودوا إلى الرشادة سياسيًّا وطنيًّا.
لكنهم فعلوا العكس تماما؛ فبينما كانت موجة الغضب صاعدة، دعا مرسى بعض حُلفاء التنظيم ومُشايعيه إلى مؤتمرهم الفضيحة عن سد النهضة، ومنه فى بحر أسبوعين أو أقل إلى مؤتمر نصرة سوريا بالصالة المُغطاة، وفى معيّة باقة من ألمع الإرهابيين ورموز التطرف، وأعان فريقًا منهم على الولوغ فى دم الشيخ حسن شحاتة وبعض الشيعة فى زاوية أو مسلّم بالجيزة، وأمَّن لرؤوسهم الكُبرى أن يُفلتوا من العقاب.
وفوق كل هذا؛ استبقوا دعوات التظاهر بحشد أتباعهم فى ميدان رابعة العدوية بمدينة نصر، فى إشارة على الذهاب فى التصعيد لمَداه الأقصى، ومُكاسرة المجموع النخبوى والشعبى بالعدّ والترهيب، وأنهم لا ينظرون مُطلقًا للمنزلة بين منزلتين: فإمَّا أن ينتصروا على الوطن كاملا، أو يُلجئوه إلى معركة وجود طاحنة.
من هنا لم يعُد بالإمكان الرجوع من 30 يونيو دون بيّنة واضحة. فالغاضبون فُرِضَت عليهم قواعد اللعبة من جهة الجماعة، وأى تراخٍّ لن يُحسَب إلا على الهزيمة والإذعان، وتمرير خطط الأخونة والتمكين بغشومة واستئساد أكبر من كل ما كان سابقًا.
والواقع أن تظاهرة الرفض كانت جامعة مانعة، ولم يتخلّف عنها إلا حزام ضيّق من التيّارات الأُصولية. وبالنظر إلى أنها انطلقت من إجماع هادر، ونادر أيضًا؛ فإن ما ترتّب عليه بحُكم الظرف والاضطرار كان مُتمِّمًا لها، وجزءًا عضويًّا من نسيجها، أكان فى مُهلة اليومين أم فى خارطة الطريق التالية لها.
والقصد من تلك النقطة؛ إنما ينصرف إلى بعض المُتطهّرين من أطياف اليسار، وفيهم من يُثبِّت مشاركته فى 30 يونيو دون 3 يوليو، ويسعى إلى اختزال الثورة فى مظاهرة، أو تحويلها من مسارها الطبيعى كموجة تصحيح لانحراف يناير، إلى فعالية ضغط واحتجاج تحت سقف الانتظام الدستورى؛ فيما الجماعة نفسها لم تحترم الدستور أصلاً.
لقد خرج الملايين قبل ذلك بسنةٍ وعِدّة أشهر، وحملت الثورة اسم 25 يناير؛ لكنها لم تنفصل مُطلقًا عن لحظة إخراج مُبارك من السلطة فى 11 فبراير. ولا تقبّل المُحتجّون وقتها التذرّع بالدستور، ولا الإبقاء على الرئيس لنهاية ولايته بعد عدّة أشهر، وأخذت الحالة الثورية مداها لآخرها كما جرت العادة واستقرّت سوابق الأحوال.
والمحطة التالية كانت تكرارا للمشهد نفسه. إذ المُعادلة باختصار: سُلطة لا تحترم التزاماتها، وانتفاء للشرعية والمقبولية، ورغبة هادرة من أصحاب الحقل الأصيل فى استعادة ولايتهم على الإدارة، أو تنحية من أنابوه عنهم فى ضوء المُستجدّات والأولويات المُتحرّكة. وبهذا؛ فإن يونيو جدّدت شباب يناير وعافيته، ولا حجّية لفبراير مبارك، من دون يوليو مرسى.
باختصار؛ لا يكتمل الإيمان بثورة 30 يونيو من دون التسليم بشرعيّة 3 يوليو، ودورها المُتمِّم، وأنها كانت ضرورة تاريخية بقدر ما كان الغضب نفسه ضروريا، وما كان الخلاص من نظام مُبارك مُقدِّمة لإرساء تركيبة حُكم جديدة، وإدامة النظر فيها فحصًا وتصويبًا لحين الوصول إلى صيغة مُرضية، أو أرشد ما يكون فى تناقضاتها الخفيّة والظاهرة.
كان الجميع تقريبا راغبين فى إبعاد الإخوان عن واجهة المشهد؛ لكن فيهم من يتحلّى بشجاعة الإقرار بالموقف والدفاع عنه، وبينهم من يُناورون ويتحايلون ويحاولون إمساك العصا من خاصرتها؛ لأهداف شخصية أو أيديولوجية، وربما لاعتبارات تخصُّ انتظام مصالح البعض مع الجماعة، وتطلعات آخرين لرضا دوائر خارجية مِمَّن يُموّلون ويمنحون أوسمة الرضا للمجتمع المدنى وديناصوراته العملاقة.
كان مُبارك إفرازًا للصناديق، وحائزًا لصكّ الديمقراطية التمثيلية؛ أقله فى ولايته الأخيرة. آلية إنتاج الشرعية لم تُعفِه من المُساءلة، وعجز الدستور عن أن يقوم حاجزًا صلبًا فى مواجهة موجة غضب ثورية عاتية. وما جرى عليه يجرى على سواه؛ لا سيّما إن كان سلوكه القريب يُمثّل خيانة للثورة نفسها، وانقلابا على تعاقداته مع الشركاء فيها والجمهور، ناهيك عن أنه لا مُقارنة من الأساس بين وطنية السابق وعمالة اللاحق.
كانت القوى المدنية فى عمومها أكثر انحيازا لفك الرباط مع الإخوان من الجيش. وأنا أقرب للأولى من الثانى؛ بالصفة المدنية وبالأفكار والشواغل السياسية. والذين خرجوا فى 30 يونيو ربما كانوا يُعوّلون على لحظة تعقُّل تنظيمية؛ إنما بعدما تكشّفت لهم حقائق الجماعة وسوء طويّتها، فالمؤكد أنهم استوثقوا من إلزامية الحسم، وكانت القوات المُسلّحة مُخيّرة بين أمرين: إسناد الحُكم الأصولى على حساب الهوية والناس، أو الانحياز للشارع وإعلاء المصلحة الوطنية فوق غيرها من الاعتبارات.
لو سارت القيادة إلى الخيار الضدّ؛ لرُمِيَت بكل الاتهامات والنقائص، وحُمِّلت وقتها وإلى اليوم أعباء الخطايا الإخوانية شبه المُؤكّدة، وهى للأسف تتجاوز الإخفاق فى مسألة اقتصادية أو التعثُّر فى رؤية سياسية، وتنفتح على تسليم مقاليد الأمور إلى قوى خارجية، والاستتباع لصالح أجندات ومشاريع مضادة للدولة وأولوياتها، وفتح الساحات على بعضها من حركة حماس وصولا لحظيرة العثمانية الجديدة وأطرافها السارحة بامتداد الإقليم، فضلاً عن تناقض الجمع بين ظلال الامبراطورية الساقطة وأهداب الشيعية المُسلّحة تحت راية الجمهورية الإسلامية.
لم تكن المُفاضلة بين الثورة والإصلاح/ الميادين والصناديق؛ بل بين الوجود والعدم من دون مبالغة. بين أن نكون دولة ترتبك وتنتظم، أو عصابة تتسلّط على الجغرافيا والديموغرافيا بمنطق الميليشيا والكيانات السائلة والمُتأججة أيديولوجيًّا. والتضاد بين الرؤيتين حاد وعميق للغاية؛ لذا لم تكن 30 يونيو تظاهرة يُعاد منها إلى الأحزاب ودواليب الإدارة، ولا كان 3 يوليو رفاهية يُمكن تجاوزها إلى سواها من بدائل مُقنعة ومأمونة.
ما جرى بعد 30 يونيو كان نسخة مما سنلاقيه من دونها، عندما تكتمل الدوائر وينغلق خناقها على سلطة حديدية متمايزة عقائديا وتنظيميا، ومجموع عريض من الأغيار المطرودين خارج رحمتها.
وإن شئنا أن نتوخى المصادرة على الزمن، ورومانسية المؤمنين بالحتميات التاريخية إلا فى موقفهم من الرجعية الدينية؛ فلنقل إن وقائع العنف التى استخف بها البعض فى الحارات والميادين وأمام الاتحادية ومكتب الإرشاد، كانت عنوانا على مرحلة قرر متسيّدوها أن يُحصّنوا سيادتهم بالدم، وأن ينتزعوا ما يطمعون فيه بالمخالب والأنياب.
وكان طبيعيا بالتبعيّة أن تتطور فى غضون أسابيع إلى تلك الموجة العارمة من الإرهاب وانفجاراته الواسعة؛ فما كان إعلاء السلاح على السياسة انفعالا طارئا، ولا امتلاكه من الأساس مصادفة أو بانحراف شخصى.
التوحش ليس نبتا شيطانيا فى طينة الإخوان؛ إنما معتقد ومسلك حياتى، تكبحه الظروف أو تغيبه التقية أحيانا؛ لكنه يظل حاضرا فى خلفية المشهد، ويطفر من الأفواه قبل أن تخطط له العقول الإجرامية وتمارسه الأيادى الهوجاء.
لم يُعرَف عن المُراهقين بأثرٍ رجعىٍّ أنهم أبدوا موقفا مُضادًّا وقتها. ربما ألجمتهم المفاجأة، أو نافقوا الشارع الغاضب بالصمت؛ إنما يظل الاحتمال قائمًا لجهة أنهم كانوا راضين ومُرحّبين بالنتيجة. والاستفاقة اللاحقة أقرب لمُزايدة الغارق على مُنقذيه بعدما يصل إلى الشاطئ ويرتاح تحت مظلّة آمنة.
ولنكن أكثر وضوحًا؛ فكل الذين اعترضوا على الإخوان كانوا شركاء مباشرين فى 3 يوليو قبل 30 يونيو، وكلاهما حدث واحد توزّع على يومين، أو لنقل إنه كان يومًا مُمتدًّا على ستٍّ وتسعين ساعة تقريبًا. قُدِّمَت فيه لائحة المطالب للإخوان؛ فما انتقوا منها ولا عدّلوا فيها؛ بل رفضوها بالكُلّية وقرّروا أن يخوضوا حربًا مفتوحة على الجميع.
كل غضبة مُعلّقة بعد يناير، وكل هتاف ضد الجماعة قبل وصولها للحُكم وبعده، وكل مسيرة فى شارع أو حارة، وتوقيع على استمارة تمرُّد أو منشور على وسائل التواصل، تتجمّع معًا فى فسيفساء عريضة صنعت مشهد 30 يونيو، وانتقلت منه اضطرارا وبإرادة الإخوان أنفسهم إلى 3 يوليو، فكان الأخير تظهيرًا للحالة الشعبية، واستكمالاً لمُقتضياتها، وإقامة للحجّة على قطيع الإرهابيين بالكيفية التى أرادوها، وسعوا إلى إنفاذها ضد خصومهم؛ لولا أن مؤسسات الدولة اختارت الكُلّ ولم يُطوّعها ابتزاز الجزء أو إغراءاته، ومحاولاته المتواصلة للترويض والردع.
كانت يناير ملكيّة عامّة، بغض النظر عن مُفجّريها ونوعية المشاركين فيها. الإخوان مسؤولون جميعًا عن كل خطايا الجماعة وإجرامها، و30 يونيو أعادت الحق الضائع لأصحابه الأُصلاء، وكان عليها أن تُحصِّن الاستعادة بإجراء عملى مُتماسك، أو تنزوى فى رُكن مُظلم بعد أفراغ ما فى الحناجر من صراخ؛ ليتيسَّر للمُرشد وأتباعه والأوصياء عليه أن يُعلنوا سيادتهم على المكان والمكانة.
لا تكتمل حالة 30 يونيو إلا بلحظة 3 يوليو الفارقة، وفرحة التحرُّر مقسومة على كليهما، ولا يكتمل الإيمان بالثورة إلا بالعبور على حلقاتها المُتتابعة، ولا الانطلاق إلى الإصلاح من دون تحديد مواطن الوهن وتحجيمها.
30 يونيو دراما كتبها المصريون جميعًا، و3 يوليو نهاية اختارها الإخوان بإرادتهم، وبهما معًا تتمّ الحكاية، ويُؤرَّخ لحدث تاريخى عنوانه الإنقاذ، وجوهره الإجماع، وإفادته اللامعة أنه كان قرارًا عامًّا لمجتمعٍ حىٍّ، لا يضرُّه أن تعمى أبصار بعض انتهازييه لاحقًا، أو يتسلّط عليهم شيطان السذاجة والمُكايدة، وغرامهم الدائم بالنوم فى أسرّة الأصوليين