تعرضت مدينة الإسكندرية، درة البحر الأبيض المتوسط، على مر العصور لزلازل مدمرة أدت إلى غرق أجزاء كبيرة منها، بما في ذلك مدن بأكملها مثل كانوبيس وهيراكليون. هذه الكوارث الطبيعية لم تمحِ تاريخ المدينة فحسب، بل حولت قاع البحر إلى متحف مفتوح يضم كنوزًا أثرية لا تقدر بثمن. بدأت عمليات التنقيب الأثري تحت الماء في الإسكندرية في أوائل القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1933، عندما اكتشف طيار بريطاني بالصدفة آثارًا غارقة. هذا الاكتشاف الأولي أثار اهتمام الأمير عمر طوسون، الذي قام بتمويل عمليات البحث والانتشال، مما أدى إلى الكشف عن آلاف القطع الأثرية والمدن المغمورة التي ترقد تحت سطح الماء. هذه الاكتشافات المتتالية أكدت على أن الإسكندرية القديمة لم تمت، بل انتقلت إلى عالم آخر تحت الماء، تنتظر من يكشف أسرارها.

 

بداية الاكتشاف وكنوز الإسكندرية الغارقة

يقول محمد سعيد، الخبير الأثري بالإسكندرية، إن اكتشاف الآثار الغارقة كان بمثابة نقطة تحول في فهم تاريخ المدينة. فبعد اكتشاف الطيار البريطاني، توالت الجهود للكشف عن المزيد من الكنوز المخبأة تحت الماء. وأضاف سعيد أن أسفل مياه البحر المتوسط بالإسكندرية يضم كنوزًا عديدة، بعضها تم استخراجه وعرضه في المتاحف، والبعض الآخر لا يزال في مكانه بسبب صعوبة استخراجه أو بسبب التكلفة الباهظة لعمليات الإنقاذ. يذكر أن فكرة إنشاء متحف عائم لعرض هذه الآثار قد طرحت في الماضي، لكنها توقفت بسبب التكاليف الباهظة. ومع ذلك، فإن مكتبة الإسكندرية تعرض حاليًا العديد من الآثار التي تم استخراجها، بالإضافة إلى صور فوتوغرافية للآثار الموجودة تحت الماء، وذلك لتعريف المواطنين بتاريخ مدينتهم العريق. إن الكشف عن هذه الآثار الغارقة يمثل تحديًا كبيرًا، ولكنه في الوقت نفسه فرصة لإعادة كتابة تاريخ الإسكندرية وإبراز دورها الحضاري على مر العصور.

 

خليج أبو قير: مدن غارقة ومعابد ومعبودات

يعد خليج أبو قير من أهم المواقع الأثرية الغارقة في الإسكندرية، حيث كان يحتضن مدينتي كانوبيس وهيراكليون قبل بناء الإسكندرية. ازدهرت هاتان المدينتان بفضل موقعهما الاستراتيجي على دلتا النيل، حيث كانتا تستمدان ثرواتهما من الضرائب المفروضة على البضائع التي تنقل عبر الموانئ القريبة. كشفت بعثة المعهد الأوروبي للآثار البحرية، بالتعاون مع الإدارة العامة للآثار الغارقة بوزارة السياحة والآثار، عن أطلال المدينتين، وتم العثور على أجزاء من معبد وتماثيل لمعبودات مختلفة، مثل لوحة إنشاء المدينة، وتمثال لملكة بطلمية تشبه كليوباترا الثالثة، وتمثال آخر لملكة بطلمية من الجرانيت الأحمر، وتمثال ضخم من الجرانيت الأحمر يمثل المعبود حابي، وتمثال المعبود نيلوس، إله نهر النيل عند اليونان. بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على مجموعة من اللقى الأثرية، مثل أواني شُرب فخارية، وقطع من الحُلي ذهبية، وعملات ذهبية ودنانير فضية، وحطام سفينة قديمة. تم انتشال جميع هذه الاكتشافات وعرضها في متاحف مصر التابعة لوزارة السياحة والآثار، لتمكين الجمهور من الاطلاع على تاريخ هذه المدن الغارقة.

 

الميناء الشرقي وموقع قلعة قايتباي: شواهد على عظمة الإسكندرية القديمة

يمثل الميناء الشرقي قلب العاصمة القديمة للإسكندرية، حيث كان يضم القصور والمعابد ومنارة الإسكندرية الأسطورية بجزيرة فاروس. اليوم، يقع هذا الحي بأكمله تحت مياه البحر المتوسط، لكن أعمال التنقيب الأثري المستمرة كشفت عن كنوز لا تقدر بثمن. عثرت بعثة المعهد الأوروبي للآثار البحرية، بالتعاون مع الإدارة العامة للآثار الغارقة، على مجموعة من التماثيل، بما في ذلك تمثال لأبو الهول في هيئة صقر، وتمثال لكاهن يحمل جرة أوزوريس يعود للقرن الأول قبل الميلاد، ورأس من الجرانيت لبطليموس الخامس عشر، وبعض تماثيل أبو الهول المصنوعة من الجرانيت. كشفت الحفائر الأخيرة في الميناء عن أرضية رخامية يعتقد أنها جزء من قصر كليوباترا، بالإضافة إلى معبد لإيزيس وأبو الهول وعدة تماثيل غارقة في قاع البحر. أما موقع قلعة قايتباي، فهو يمثل أطلال منارة الإسكندرية القديمة، التي كانت تعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع. عثر في هذا الموقع على آلاف القطع الأثرية الحجرية ذات الأحجام والأوزان الضخمة، والتي تمثل غالبيتها عناصر معمارية مثل الأساطين وقواعدها ومسلاتها وأعتاب وعناصر زخرفية، بالإضافة إلى سبعة تماثيل لأبي الهول.

 

تم انتشال نماذج من هذه القطع الأثرية وعرضها في المسرح الروماني بكوم الدكة وفي المناطق المحيطة بعمود السواري.

 

مواقع أخرى: الشاطبي والمعمورة والساحل الشمالي

لم تقتصر الاكتشافات الأثرية الغارقة على خليج أبو قير والميناء الشرقي وموقع قلعة قايتباي، بل امتدت لتشمل مواقع أخرى مثل الشاطبي والمعمورة والساحل الشمالي. في موقع الشاطبي، عثر على قطع أثرية حول لسان السلسلة من جهة الشرق، والتي يرجح أنها بقايا معبد إيزيس أو قصر الملكة كليوباترا السابعة. كما كشفت البعثة عن بقايا فخارية معظمها لأوانٍ فخارية على طراز الأمفورات تعود إلى العصر الروماني المتأخر. أما خليج المعمورة، الذي كان بمثابة بوابة السفن القادمة من البحر المتوسط إلى النيل، فقد عثر فيه على كسرات فخارية وبقايا أمفورات منتشرة في قاع الخليج، مما يدل على وجود حطام العديد من السفن وازدهار التجارة بين مصر القديمة والعالم. كما كشفت عملية المسح الأثري لقاع البحر عن العثور على حطام سفينة رومانية قديمة وميناء صغير ورصيف يعودان إلى العصر اليوناني الروماني، بالإضافة إلى محجر للحجر الجيري الذي استخدم في بنائهما. وفي الساحل الشمالي، عثر فريق عمل الإدارة المركزية للآثار الغارقة على حطام سفينة تجارية يرجع للعصر البطلمي، ومن المرجح أنها كانت قادمة من جزيرة رودس متجهة إلى الإسكندرية.

تؤكد هذه الاكتشافات المتنوعة على أن الإسكندرية القديمة كانت مركزًا تجاريًا وثقافيًا هامًا، وأن تاريخها لا يزال يختبئ تحت الماء، ينتظر من يكشف المزيد من أسراره.